رحيل بلا وداع

-روحت عشان اقولها تبعد عنك، طالما انت مش قادر تقولها، لو انت مش خايف على مصلحتك، يبقى هي المفروض تخاف.
عقبت والدته سريعًا بنبرة قاسية:
-لكن هي طلعت قليلة الادب وتطاولت على أخوك في الكلام، شوفت أخرة اختيارتك يا طارق!
اندفع طارق بغضب وهو يشير نحو أخيه:
-يا سلام يعني مش هو اللي راح وأهانها في مكان شغلها، وحاول يقلل من عيلتها ومنها، عايزاها ترد تقول أيه غير كده، ده كويس إنها ماطردتوش.
صرخت والدته في وجهه بانفعال:
-إيه الجنان ده، انت ازاي تتكلم كده على أخوك الكبير، شوفت لما اتعاملت مع اللي أقل منك، بقى مستواك زيها ازاي سوقي ووقح.
تهكم ياسر مرددًا خلف والدته:
-ولسه يا أمي لما يتجوزها ويخلف عيال هنشوف عياله هيبقوا ازاي!!
-تصدق بالله أنا هتجوزها عند فيك أنت، ياسر أنا مش لعبة في إيدك، وان كنت بتتحكم في اللي حواليك، مش هتقدر تتحكم فيا.
صدح صوت طارق بنبرة عالية وهو يوجه حديثه المتحدي إلى ياسر، الذي كور يده محاولًا ضبط نفسه، فتدخل والدهما بصوت غليظ:
-مش هيحصل يا طارق، ومش هتتجوزها، واللي يقوله ياسر هو اللي هيمشي فاهم ولا لا.
دفع طارق الكرسي الذي كان خلفه بقوة وهو يقول بنبرة حانقة غليظة:
-لا يا بابا مش فاهم، وأنا هروح أخطبها يوم الجمعة عايزين تقفوا جنبي يا أهلاً مش عايزين أنا هكمل حياتي بالطريقة اللي أنا حاببها، سلام.
صرخت والدته وهي تناديه:
-طارق اقف، ولد انت ازاي تتجرأ وتكلمنا كده.
لم يستمع طارق إليها، واندفع خارج المنزل، شاعرًا بإحباط كبير من عائلته وتدخلاتهم التي أصبحت تخنقه وتعيقه في حياته، وقد حان الوقت لوضع حد لتلك المهزلة، وخاصة عندما تعلق الأمر بقلبه؛ فلن يتحمل الضغط كثيرًا منهم، وحتى لو وصل به الأمر
إلى الابتعاد عنهم جميعًا والاكتفاء بمنة فقط، لذا أجرى اتصالاً بها وأخبرها بما حدث بالتفصيل وكان صريحًا معها وطلب خطبتها بل حتى إجراء عقد قرانهما في أقرب وقت ممكن.
****
مرّ أسبوع كامل على ذلك اليوم الثقيل، وجاء موعد خطبتي من طارق، الذي تقدم لي بمفرده، ولم تحضر عائلته بأكملها، سوى بعض أصدقائه المقربين، كان الحفل بسيطًا للغاية في منزل عائلتي، حيث قدّم لي خاتمًا بسيطًا اخترته بنفسي، تعالت الزغاريد والاحتفالات بنا، وعمّت السعادة أجواء الحفل، ورغم شعوري بالانكسار بسبب تحدي طارق لعائلته، لم يكن ذلك ذنبي، لقد حاولت أن أبتعد عنه، لكنه رفض ذلك وأصرّ على خطبتي، فاستسلمت له، خاصة أنني لم أكن أستطيع تحمّل فراقه أبدًا، ربما مع الوقت ترضخ عائلته وتتقبلني.
بدأ الحاضرون بمغادرة الحفل، وكنتُ في أوج سعادتي وأنا أراقب فرحة طارق بي ونظراته الشغوفة، وفجأة جاءتني نسمة، ومالت نحوي وهمست بنبرة كادت تخنقها الدموع، وهي تخبرني بتوتر:
-منة، أنا عارفة أنه مش وقته، بس احنا في مصيبة.
نظرتُ إليها وأنا اتعجب من قولها، حتى انجذب طارق إلينا وهمس:
-في أيه يا نسمة مصيبة أيه؟!
أشارت نحو هاتفها وهي تقول بنبرة مرتبكة شبه باكية:
-في أكونتات بنات بتهاجم منة وبتشتمها، وبيقولوا إن الميكب بتاعها بير سلم وبيبوظ، والغريب إن في أكونتات نزلوا اسكرينات محادثات للبيدج بتاعتنا وإن منة بترد عليهم بقلة ذوق، والله ده ما حصل أبدًا، وأول مرة أشوف الاكونتات دي، والاغرب إن الموضوع منتشر اوي على كل السوشيال وصفحات بتتكلم عنها وحش.
لم أستوعب حديثها في البداية، من هؤلاء الأشخاص؟ ولماذا يفعلون هذا بي؟ أخذت منها الهاتف، وبدأت بتصفح الصفحات والمنشورات والتعليقات، كانت صدمتي كبيرة عندما قرأت تلك الأمور المسيئة عني، شعرت بالقهر الشديد، خاصة أن عملي قد يتأثر بمثل هذه الإشاعات، وبينما كنت غارقة في تلك الأفكار، شعرت بيد نسمة تربّت على كتفي، وهمست لي قائلة:
-ان شاء الله ربنا يردلك غيبتك يا حبيبتي، ونعرف مين ورا الحوار ده، أكيد ميكب ارتيست تانية بتغل منك ومن شطارتك.
رفعت رأسي إليها وأنا أشعر باضطراب حاد يجتاحني، لم أشعر بنفسي إلا وأنا أتركها وأهرع إلى طارق ملجئي الوحيد، لأخبره بما أصابني.
وجدت طارق يقف بالخارج مع أحد أصدقائه المقربين، يدعى حسام، وكان منفعلاً، وهو يقول له:
-حسام أنا متأكد أنه ياسر أخويا، وأنا عارف إن ده أسلوبه.
ضرب صديقه كفًا بآخر بتعجب وهو يقول:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، هو هيستفاد أيه لما يضرها في شغلها بس.
-العيار اللي مايصبش يدوش دي طريقته، بيخوفها، بس الله في سماه أنا ما سايبها وهتمسك بيها أكتر.
تسللت كلماته الحازمة إلى قلبي وأطفأت شيئًا من نيراني المشتعلة، شعرت بوميض من الأمل، وكأن شعلة التحدي التي تمسك بها طارق انتقلت إليّ، ازداد إصراري عليه، وقررت أن أتجاهل ما حدث على وسائل التواصل الاجتماعي، وألقي كل تلك التفاهات خلف ظهري.
***
شهرٌ كامل وأنا أتجهز لعقد القران الذي كان مقررًا يوم الجمعة القادمة، وها نحن في أول أيام الأسبوع، وأنا في حيرةٍ تامّة بشأن اختيار فستاني ولونه، لذا اتفق معي “طارق” على أن يأتي معي اليوم ليساعدني في الاختيار، ولكنني اتصلت به أكثر من مائة مرة دون أن يجيب، شعرت بقلقٍ عارمٍ عليه، وبدأت أتفقد هاتفي بين حينٍ وآخر، إلى أن وصلتني منه رسالة.
“منة حبيبتي، معلش مشغول شوية، انزلي انتي وشوفي الفساتين وابعتيلي الصور، وأنا هختار معاكي.”
شعرت بإحباطٍ إلى حد ما، لكنني التمست له العذر، فأنا أعلم جيدًا طبيعة عمله، وأن وقته ليس ملكه، لذا، أرسلت له رسالة أخبرته فيها بموافقتي، بالفعل، اخترت “نسمة”، مساعدتي وصديقتي الوحيدة، لترافقني في عملية الاختيار، مضى الوقت ونحن نتنقل بين المحلات، وكنت أرسل صور الفساتين التي أختارها لطارق، وهو يبدي رفضه حتى اختار أخيرًا فستانًا بسيطًا؛ فهو يحب البساطة مثلي في كل شيء، حينها حاولت الاتصال به ولكنه لم يجب، تعجبت كثيرًا، لكنني لم أكرر المحاولة.
غادرت المول التجاري برفقة نسمة وتوجهنا إلى مطعم لتناول وجبة بعد كل هذا العناء، مرَّ الوقت علينا دون أن أشعر، إلى أن اكتشفت رسالة من طارق أرسلها قبل ساعة يخبرني فيها عن سبب انشغاله.
“منة أنا في حوار مع أهلي، هخلص واكلمك ماتقلقيش عليا، والفستان قمر عليكي، وزي ما أنتي عايزة كلمت المهندس بتاع الشقة وهيعمل اللي انتي عايزاه فيها”.
تنهدت بقلق عندما ذكر عائلته، ولكن ليس بيدي شيء
وقررت أن انتظر اتصاله بي، أوصلت نسمة إلى منزلها، وذهبت إلى منزلي، واخترت من فراشي مكانًا مريح أريح جسدي به.
تنهدتُ بقلقٍ عندما ذكر عائلته، ولكن ليس بيدي شيء، قررتُ أن أنتظر اتصاله بي، أوصلتُ نسمة إلى منزلها، ثم عدتُ إلى منزلي واخترتُ مكانًا مريحًا على فراشي أريح فيه جسدي.
ومع انتظاري الطويل، تفاقم قلقي عليه، ولم أتحمل فأجريتُ اتصالاتٍ عديدة به دون أن يجيب، زفرتُ بغيظٍ وتوترٍ أحاطني بسببه، حتى أخيرًا جاء رده قلتُ سريعًا بلهفة:
-ألو! أخِص عليك يا طارق، بتصل بيك كل ده ومابتردش؟!
لكن لم يأتِني صوته، بل وصلني صوت نحيبٍ أنثوي خافت، تعجبتُ وسألتُ:
-مين أنتي؟!
استمعتُ لأنفاسها المضطربة، ثم قالت بصوتٍ باكٍ وحزين:
-طارق باشا مات.
وقفتُ مكاني بصدمةٍ، ولم أستوعب ما قالته، همستُ بخوف:
-مـ…مين مات؟!
صمتت للحظة، ثم قالت بنحيبٍ عالٍ:
-طارق باشا مات.
صرختُ بجنونٍ وأنا أقول بعدم تصديق:
-مين أنتي؟!
-أنا الخادمة. وهما خدوه دلوقتي على مستشفى *****.
وقع الهاتف من يدي، ولم أشعر بنفسي سوى وأنا أهوي أرضًا فاقدةً للوعي.
لم أعلم كم من الوقت مرَّ عليّ، لكنني استيقظتُ تقريبًا بعد مرور خمس عشرة دقيقة على حد قول والدي، صرتُ أهذي بالكلمات، أصرخ وأبكي، حتى استوعبتُ فداحة الأمر، طارق فارق الحياة! متى؟ وكيف؟!
تذكرتُ اسم المستشفى الذي ذكرته الخادمة، وترنَّحتُ في وقوفي وأنا أطلب من والدي أن يصطحبني سريعًا إلى تلك المستشفى كي أتأكد من ذلك الخبر، وأنا كلِّي أملٌ أن تكون مجرد مزحة.
بعد مرور عدة دقائق لم أشعر بها، إذ كنت غارقةً في أحزاني وأوجاعي وأنا أتخيل مجرد التخيل أن ذلك الخبر صحيح، آهٌ حارقةٌ خرجت من جوفي، ثم شعرتُ بعدها باحتضان والدي لي، فشعرتُ ببعض الاطمئنان.
وصلنا أمام المستشفى، وركضتُ بأقصى سرعة لديّ وصرتُ أبحث كالمجنونة هنا وهناك عن اسم طارق، حتى دلني أحد الممرضين على آخر الممر، ركضتُ سريعًا أنا ووالدي، ووجدتُ ياسر أخاه، يقف بجوار والدته، ويبكيان بحرقة، وفور رؤيته لي، صاح بانفعال:
-أنتي أيه اللي جابك يا بت أنتي؟!
بكيتُ بحرقةٍ وأنا اتجاهل إهانته، متسائلة بخوف:
-طارق فين؟ طارق بخير؟
عندها وجدت والدته تتقدم نحوي بشراسةٍ وغضب:
-طارق مات بسببك، انتحر بسببك، دمرتي حياته ومستقبله.
همستُ بعدم تصديق:
-انتحر؟
كيف؟ ولماذا؟ فأمورنا كانت مستقرة، كنا نستعد معًا لعقد القران، ولم يحدث بيننا أي مشكلة أبدًا، كنا متفاهمين، مترابطين، متحابين، لماذا ينتحر؟!
-روحت عشان اقولها تبعد عنك، طالما انت مش قادر تقولها، لو انت مش خايف على مصلحتك، يبقى هي المفروض تخاف. عقبت والدته سريعًا بنبرة قاسية: -لكن هي طلعت قليلة الادب وتطاولت على أخوك في الكلام، شوفت أخرة اختيارتك يا طارق! اندفع طارق بغضب وهو يشير نحو أخيه: -يا سلام يعني مش هو اللي راح وأهانها في مكان شغلها، وحاول يقلل من عيلتها ومنها، عايزاها ترد تقول أيه غير كده، ده كويس إنها ماطردتوش. صرخت والدته في وجهه بانفعال: -إيه الجنان ده، انت ازاي تتكلم كده على أخوك الكبير، شوفت لما اتعاملت مع اللي أقل منك، بقى مستواك زيها ازاي سوقي ووقح. تهكم ياسر مرددًا خلف والدته: -ولسه يا أمي لما يتجوزها ويخلف عيال هنشوف عياله هيبقوا ازاي!! -تصدق بالله أنا هتجوزها عند فيك أنت، ياسر أنا مش لعبة في إيدك، وان كنت بتتحكم في اللي حواليك، مش هتقدر تتحكم فيا. صدح صوت طارق بنبرة عالية وهو يوجه حديثه المتحدي إلى ياسر، الذي كور يده محاولًا ضبط نفسه، فتدخل والدهما بصوت غليظ: -مش هيحصل يا طارق، ومش هتتجوزها، واللي يقوله ياسر هو اللي هيمشي فاهم ولا لا. دفع طارق الكرسي الذي كان خلفه بقوة وهو يقول بنبرة حانقة غليظة: -لا يا بابا مش فاهم، وأنا هروح أخطبها يوم الجمعة عايزين تقفوا جنبي يا أهلاً مش عايزين أنا هكمل حياتي بالطريقة اللي أنا حاببها، سلام. صرخت والدته وهي تناديه: -طارق اقف، ولد انت ازاي تتجرأ وتكلمنا كده. لم يستمع طارق إليها، واندفع خارج المنزل، شاعرًا بإحباط كبير من عائلته وتدخلاتهم التي أصبحت تخنقه وتعيقه في حياته، وقد حان الوقت لوضع حد لتلك المهزلة، وخاصة عندما تعلق الأمر بقلبه؛ فلن يتحمل الضغط كثيرًا منهم، وحتى لو وصل به الأمر