إمبيريا
– طيب… دلوقتي أنا محتاجة أعرف منك، الخطوبة دي هتفضل مستمرة لإمتى ونهايتها إيه، يعني هتنتهي بالجواز عادي ولا هنسيب بعض ومش هانكمِّل سوا؟
– قلت لك قبل كده إني باحبك وعاوز أكمل حياتي معاكِ، لكن اصبري شوية، الجواز له ترتيبات والتزامات، وأنا عاوز أخلَّص الرسالة، محتاج تساعديني في ده بإنك بس تصبري عليَّ الفترة دي مش أكتر من كده، وتثقي فيَّ وفي حبي ليكِ.
– ما هو لو حاسة منك باهتمام كنت وثقت فيك أكتر واتطمنت، أنا مش حاسة إني في حياتك، كل اهتمامك بالرسالة والفلسفة، ده حتى العيال اللي شغالة في الكافيه مهتم بيهم عني، ده انت بتفكَّر في محسن… وأنا لأ.
– هو انتِ ليه دايمًا بالنسبة لك ترجمة الحب والاهتمام بالمشاعرهي الكلام.
– فين الاهتمام بالمشاعر ده أصلًا، بتخرج معايا، وكأني خارجة لوحدي، باسمع أصحابي بيتكلموا عن علاقاتهم بشكل أنا عمري ما شوفته، بيتكلموا عن مستقبلهم، وتجهيزات بيتهم وشكل حياتهم، وانت بتكلمني طول الوقت عن الفلسفة، وعن اختيارات الإنسان، و..
قاطعها:
– وهو ده جديد! ما انتِ عرفتيني وحبتيني كده، هو ده اللي لَفَت نظرك ليَّ، إني مش زي الباقيين، مش ده كلامك!
صمتت قليلًا قبل أن ترد بانفعال:
– زهقت يا يوسف، أنا مش هاتجوز سقراط، حاول تحس بيَّ شوية، محتاجين بس نفصل شوية ونفكر تاني، أو انت يعني تفكر تاني في طريقتك معايا، ولما توصل لقرار نتقابل تاني بس في مكان غير ده علشان حقيقي أنا زهقت.
ظل ينظر لها متعجبًا من حديثها، فهي لم تكن كذلك من قبل:
– أفكر في إيه؟
ضحكت بسخرية:
– كمان مستخسر تفكر! ما انت طول الوقت بتفكر، عمومًا أنا قُلت اللي عندي، وبراحتك بقى.
بعد يومين لقاؤه بملك كان يقف
– الحصة اللي فاتت قبل ما أمشي، سألتكم عن فلسفتكم في الحياة، مين دلوقتي ممكن يجاوب؟
رفع بعض الطلاب أيديهم للإجابة فأشار لأحدهم ليبدأ في عرض إجابته:
– أنا شايف إن التعليم مش هو الحاجة اللي ممكن تنفعني في حياتي، وعاوز أسيب المدرسة وأفتح مشروع ممكن يخليني أجيب فلوس كتير أعيش بيها وأصرفها على كل اللي محتاجه.
ارتفعت همهمات الطلاب، ما بين مؤيد ومعارض، فأشار لهم بالصمت حتى يكمل الطالب حديثه:
– على فكرة يا أستاذ، كل اللي بيضحكوا دول هما كمان عاوزين فلوس كتير يصرفوها، وفيه منهم اللي عنده قناة على تيك توك بيصور نفسه وهو بيلعب، زي زياد كده.
بدأ الطلاب في النظر إلى زياد بإعجاب، ومنهم من بدأ يسأله عن رابط حساب قناته حتى يتثنى له متابعته، فقاطعهم يوسف وطلب منهم تأجيل ذلك لبعد الحصة:
– طيب عاوز أسألكم سؤال طالما كلكم موافقين على فكرة إن التعليم مش شيء أساسي وإن الفلوس هي أصل السعادة، يا ترى كلامكم ده بناء على تفكير ولا تجربة، يعني كلكم متفقين على مبدأ واحد من غير ما حد ممكن يجرَّب من اللي بيتكلم عنها، يعني تجربتكم في التعليم لسه مخلصتش، ومفيش لكم تجربة فعلية مع الشغل بدون تعليم، وقصة نجاح ملموسة.
نظر لهم يراقب ردود أفعالهم، فوجدهم يتابعونه باهتمام بالغ:
– ممكن نِبَسَّط الموضوع أكتر، الإنسان في بداية الكون اكتشف ازاي إن النار بتحرق غير لما لمسها، وعرف منين إنه ممكن يصطاد ويقاتل وحوش أقوى منه غير بالتجربة، التفكير لوحده مش كفاية، لازم التجربة تكتمل للنهاية، يعني متقدرش تحكم على أهمية تجربتك في التعليم غير لما تكمِّلها وإلا هتبقى تجربتك ناقصة.
انتهت الحصة، وترك طلابه يتناقشون فيما بينهم بعدما غادر الصف، ولحق به بعض الطلاب ليسألونه ويستفسرون منه بعض الأشياء المتعلقة بالمنهج، كان دائمًا يؤمن بأن للإنسان الحق الكامل في التفكير والحرية في الاختيار، لذلك لم يكن مهتمًا كثيرًا بشرح ما جاء في المناهج الدراسية بقدر اهتمامه بإيصال رسالته للطلاب عن الفلسفة، فكان مؤمنًا للغاية بأن التفكير الحر هو أساس الوصول لاختيار سليم، وفي هذه اللحظة تذكَّر مُعَلِّمه “أسعد” فبعد أن رآه للمرة الأولى أمام ورشة الميكانيكا بهيئته وسيارته القديمة، يَتَذَكَّر نظرة الانبهار التي لم يستطع إخفاؤها بعدما قام الأسطى “بدوي” بفتح غطاء المحرك، اقترب من السيارة وبدأ يتابع “بدوي” وهو يقوم بفك القطع من السيارة، ويتوجه لأسعد لإخباره بأن إصلاح السيارة سيكون مكلفًا للغاية، وأن عليه بيعها كخردة، وهو مستعد لشراء السيارة الآن، في البداية لم يوافق الرجل لكن بعد محاولات “بدوي” في إقناعه، بأنه لن يستطيع إصلاح السيارة وافق الرجل على مضض، ويبدو على وجهه حزن عظيم، ترك السيارة وغادر، وقام “بدوي” بعدها مباشرةً بالاتصال بأحد الأشخاص يخبره أنه قد حصل على سيارة “لُقطة” سيأخذها من صاحبها بسعر زهيد، ويقوم بعرضها للبيع بعد إجراء بعض الإصلاحات والتعديلات عليها بسعر عالٍ جدًا، وأخذ يتحدث عن مميزات السيارة، وعن ندرة هذا النوع من السيارات، كان يوسف يستمع لمكالمة “بدوي” التي كانت بمثابة أول صدام له مع خطايا الإنسان، طمع بدوي في سيارة الرجل مُعرضًا إياه لحزن كبير، يكذب من أجل الحصول على السيارة بسعر بخس، وبدأ يكره ” “بدوي” وقرر ترك ورشته، لكنه لن يفعل ذلك قبل أن يخبر الرجل عن عملية الاحتيال التي تحاك ضده، كانت تمر الأيام ببطء شديد، لدرجة أنه كاد يفقد الأمل في رؤية الرجل مرة أخرى، وقرر الاستسلام وترك العمل نهائيًا، حتى عاد الرجل مرة أخرى ذات مساء لإنهاء صفقة بيع السيارة، وبدأ يوسف في الإنصات لبدوي وهو يقف أمام الرجل يخبره كذبًا عن محاولاته البائسة لإنقاذ السيارة، كالطبيب الذي بذل جهدًا مضنيًا في إنقاذ مريضه بلا فائدة، وكان الرجل يستمع لبدوي وكأنه يفقد عزيزًا غاليًا، بعيون دامعة وقلب حزين، ولسان عاجز عن التصريح بالموافقة على سعر السيارة، كان كلما زاد صمت الرجل، قام بدوي بعرض سعر أعلى ظنًا منه أن كل مشكلة الرجل هي السعر، لم يستطع يوسف الصمود أمام هذا المشهد كثيرًا، فتقدم ناحية الرجل بخطى ثابتة متجاهلًا بدوي وأخبر الرجل بكل شيء، مما جعل ملامحه تتبدل في لحظة من الحزن إلى السعادة ثم الغضب عندما همَّ بدوي بضرب يوسف وصفعه على وجهه، وهو يحاول تكذيبه والدفاع عن نفسه:
– ده كذاب يا أسعد بيه، أنا هاربيك يا يوسف على اللي بتعمله ده، انت حد مِسلِّطك عليَّ ياابن ال…
تدخل أسعد وأنقذ يوسف بصعوبة وسحبه من أمام بدوي، أخذه وانطلق في سيارته، وتوقف على جانب الطريق ليتثنى له التحدث مع يوسف:
– أنا اسمي أسعد، ومتشكر جدًا يا…
أجابه وهو لا زال يبكي من أثر ضرب بدوي له:
– يوسف، ومعملتش حاجة علشان تشكرني.
أخرج الرجل بعض الأموال وحاول إعطاءها ليوسف كترضية له، لكن يوسف رفض ذلك بشدة، فتعجب منه الرجل وقال وهو لا يستطيع إخفاء تعاطفه:
– طيب انت كده خسرت شغلك، هتعمل إيه دلوقتي يا يوسف!
– مش فارقة، الأجازة خلصت وراجع مدرستي وخلاص مش عاوز أتعلم حاجة من الشغل ده.
– انت بتتعلم في المدرسة؟ (سأله متعجبًا)
بدأ يوسف في سرد قصة حبه للميكانيكا وكيف يطمح في أن يصبح مهندسًا في ميكانيكا السيارات، وكيف لجأ لبدوي، وكيف تعلم منه بعض الخبرة، لكنه قرر نسيان كل ذلك بعدما عرف حقيقة بدوي، لم يستطع الرجل إخفاء إعجابه بيوسف وتعاطفه معه، حاول مساعدته فأخبره أنه سيبحث عن مكان آخر لإصلاح سيارته، ويريد منه أن يرافقه في ذلك، فرح يوسف بالفرصة وأصبح يرافق الرجل إلى كل مكان يتعلق بالسيارة، وكان يتابع مع أصحاب الورش عملية الإصلاح بنفسه حتى تعلَّم كيفية صيانة هذا النوع من السيارات، وفهم تمامًا كيف يمكنه معرفة أن هناك مشكلة من صوت موتور السيارة فقط، وأصبح أسعد يعتمد عليه في ذلك ويولي له أمر السيارة واستئمانه عليها، كان الرجل يعمل معلمًا للفلسفة، في إحدى المدارس القريبة من مدرسة يوسف، وكان يحكي له عن عمله، وعن طلابه، وعن اختياره للفلسفة التي غيرت حياته وجعلته شخصًا آخر، وتحولت علاقة يوسف بأسعد من علاقة عابرة إلى علاقة صداقة قوية،
– طيب… دلوقتي أنا محتاجة أعرف منك، الخطوبة دي هتفضل مستمرة لإمتى ونهايتها إيه، يعني هتنتهي بالجواز عادي ولا هنسيب بعض ومش هانكمِّل سوا؟ – قلت لك قبل كده إني باحبك وعاوز أكمل حياتي معاكِ، لكن اصبري شوية، الجواز له ترتيبات والتزامات، وأنا عاوز أخلَّص الرسالة، محتاج تساعديني في ده بإنك بس تصبري عليَّ الفترة دي مش أكتر من كده، وتثقي فيَّ وفي حبي ليكِ. – ما هو لو حاسة منك باهتمام كنت وثقت فيك أكتر واتطمنت، أنا مش حاسة إني في حياتك، كل اهتمامك بالرسالة والفلسفة، ده حتى العيال اللي شغالة في الكافيه مهتم بيهم عني، ده انت بتفكَّر في محسن… وأنا لأ. – هو انتِ ليه دايمًا بالنسبة لك ترجمة الحب والاهتمام بالمشاعرهي الكلام. – فين الاهتمام بالمشاعر ده أصلًا، بتخرج معايا، وكأني خارجة لوحدي، باسمع أصحابي بيتكلموا عن علاقاتهم بشكل أنا عمري ما شوفته، بيتكلموا عن مستقبلهم، وتجهيزات بيتهم وشكل حياتهم، وانت بتكلمني طول الوقت عن الفلسفة، وعن اختيارات الإنسان، و.. قاطعها: – وهو ده جديد! ما انتِ عرفتيني وحبتيني كده، هو ده اللي لَفَت نظرك ليَّ، إني مش زي الباقيين، مش ده كلامك! صمتت قليلًا قبل أن ترد بانفعال: – زهقت يا يوسف، أنا مش هاتجوز سقراط، حاول تحس بيَّ شوية، محتاجين بس نفصل شوية ونفكر تاني، أو انت يعني تفكر تاني في طريقتك معايا، ولما توصل لقرار نتقابل تاني بس في مكان غير ده علشان حقيقي أنا زهقت. ظل ينظر لها متعجبًا من حديثها، فهي لم تكن كذلك من قبل: – أفكر في إيه؟ ضحكت بسخرية: – كمان مستخسر تفكر! ما انت طول الوقت بتفكر، عمومًا أنا قُلت اللي عندي، وبراحتك بقى. بعد يومين لقاؤه بملك كان يقف