إمبيريا

إمبيريا
إمبيريا

جعلت يوسف يرى فيه الأب الذي فقده في صغره، فكان يلجأ له في كل مشكلة تخصه، وكان في كل مرة ينبهر من طريقة تفكيره في حل المشكلات وتفنيدها والبحث عن حلول، حتى ذهب له ذات يوم وأخبره أنه قرر أن يدرس الفلسفة، ليس هذا فحسب، بل سيكون معلمًا مثله تمامًا، وكان يجلس مع أسعد يفكران في كل شيء، يستمتع بالحديث معه الذي طال لسنوات حتى مرض أسعد وفارق الحياة، وترك تلميذه فيها وحيدًا، وكان عزاء يوسف الوحيد هو أنه قد حقق حلمه وتم تعيينه في نفس المدرسة التي كان يعمل بها أسعد، وقد تحقق هذا الحلم في أيام أسعد الأخيرة، مما جعله يهدي سيارته القديمة ليوسف كمكافأة على كل شيء، ولما حاول يوسف الرفض بدأ أسعد في استجداء عطفه وهو على فراش المرض:

– يا يوسف انت كنت ابني، وتلميذي اللي ربنا بعتهولي هدية وأنا وحيد، العربية دي هتبقى ذكرى مني ليك، تفكرك بيَّ وانت أكتر واحد هيحافظ عليها، ومش هيستغنى عنها، وخليك فاكر إن انت الوحيد اللي بتفهمها، إوعى تسيبها يا يوسف.

مر يوسف بوقت عصيب بعد وفاة “أسعد” لم يستطع أن يتخطاه إلا بانغماسه في العمل، وسط الطلاب، وكان امتلاكه لتلك السيارة القديمة، يجعله يشعر أنه لم يبتعد كثيرًا عن أسعد، ولم يكن مهتمًا أبدًا بنظرات وعبارات السخرية، عن السيارة، فلا أحد يعرف قيمته سواها.

أفاق من ذكرياته على صوت رسالة استقبلها هاتفه من “ملك” تخبره فيها بضرورة مقابلته للضرورة، وأرسلت له مع الرسالة عنوانًا لأحد المطاعم الفاخرة، في تحدٍ منها له لأنه أخبرها مرارًا أنه لا يحب ارتياد هذه الأماكن التي تقدم خدمات عادية بأسعار مبالغ فيها لمجرد أن مرتادي

هذه الأماكن أشخاص استهلاكية تبحث عن التباهي والتفاخر، لكنه ذهب من أجلها، ولم يسلم بالطبع من التعليقات والنظرات وهو يقوم بصف سيارته في “جراج” المطعم، دخل من البوابة الكبيرة، إلى بوابة أصغر مصممة بالزجاج الملون الذي جعله يشعر بالانزعاج، تقدم نحو طاولة كبيرة تجلس عليها “ملك” وحيدة في انتظاره:

– جلس أمامها ببطء، وأشار للنادل الذي أتى على خطى ثابتة، واضعًا أمامهم زجاجة كبيرة من المياه، وقائمة طعام تم تصميمها على شكل كتيبًا كبيرًا له غلاف زجاجي من الخارج، وضع يوسف الكتيب أمامه متجاهلًا إياه وطلب فنجانين من القهوة:

– ملك… أنا آسف، رغم إني مش عارف إيه اللي مزعلك بس أنا آسف.

كانت “ملك” صامتة ترمقه بغضب دون أي رد، فاستطرد:

– يااااه، للدرجة دي زعلانة مني، طيب ممكن تقولي لي المفروض أعمل إيه علشان ترضي ونتصالح، عاوزاني أقول كلام حلو، يا ستي أنا باحبك، وماقدرش أستغنى عنك، ومستني اليوم اللي…

قاطعته بحدة:

– أنا مش عاوزة أكمِّل.

نظر لها بملامح متفاجئة،

بتبص لي كده ليه… اتفاجئت! هو من يوم ما اتقابلنا آخر مرة فكرت تكلمني، فكرت تتطمن عليَّ كويسة ولا زعلانة ولا نايمة معيطة حتى!

– مش قلتِ نفكَّر!

– يوسف على فكرة انت غبي، وبطيء الاستيعاب، ومبتعرفش تتعامل مع ستات ولا بتعرف تحب حد أصلًا، انت تخليك مع الفلسفة بتاعتك والعيال الصغيرة اللي انت شاغل نفسك بيهم، وتنسى حوار الجواز ده علشان متظلمش حد معاك، شوف لك جبل ولا صحرا وروح عيش هناك تأمل براحتك، ولغاية ما تفهم الحياة الحقيقية، وبعدها تقابل واحدة دماغها ضاربة زيك؛ هاكون أنا عملت حاجات كتير في حياتي انت معطلني عنها، طول الوقت شاغلة نفسي بيك وبطريقتك السخيفة وانت عايش في عالم مع نفسك… وعلى فكرة أنا قصدت أجيبك هنا علشان تشوف الواقع اللي انت متعرفوش، يمكن تفوق بعد الشر.

أعطته “ملك” قبل أن تغادر “خاتم” خطبتها في مشهد تقليدي للغاية يشبه فراق البطلة للبطل في الأفلام الرومانسية الحزينة، لم يتعجب يوسف من فعل ملك، لكنه تعجب من رد فعله على تصرفها، لم يشعر بالحزن، لم يخرج خلفها ليلاحقها، بل جلس واحتسى القهوة التي أتى بها النادل بعد قليل، لم يعجبه مذاقها، وبخبرة رجل يشرب القهوة منذ زمن بعيد، عرف أنها مغشوشة ورديئة، دفع المبلغ  المدون أسفل الفاتورة غاضبًا وغادر بعدها بقليل، قضى يومًا عاديًا بين الأبحاث والمراجع، وجلس يدون ما يلاحظه بردود أفعال الطلاب وتقبلهم لمفهوم الفلسفة في سن صغيرة، وهل يمكن أن تكون سببًا في تغيير أسلوبهم في التفكير كما حدث معه في صغره، أم أن الأمر كله يتعلق بظهور “أسعد” في حياته، وكتب تساؤلًا على الهامش، هل يمكن أن يصبح أبًا روحيًا لأحدهم في يوم من الأيام؟

تذكَّر ملك، ووجد أنه أكثر ارتياحًا الآن، لم يكن يدرك أنه لم يحب ملك أصلًا، لكنه أحب ارتباطها به، ربما رأى فيها “يوسف” صغيرًا، كان يريد أن يقوم في حياتها بدور أسعد، أدرك هذه الحقيقة الآن وفقط بعد أن تركته، أدرك الفرق بينهما، لم تكن ملك بحاجة إلى “عرّّاب” يرشدها، لكنها كانت بحاجة لرجل يحبها ويُشعرها بأنوثتها، لذلك توهمت أنه هذا الرجل كما توهم هو أنها ستكون تلميذة تتبع إرشاداته، كان سعيدًا بفكرة أنها لديها الوعي لتتوقف عن السير في هذه العلاقة الفاشلة قبل فوات الآوان.

في صباح جديد يقف أمام طلابه، يتحدث لهم عن أهمية التأمل في تجاربهم الحياتية التي يمكن أن تؤثر على اختياراتهم فيما بعد، كان يسترسل في الحديث بعيدًا عن المنهج الدراسي، كان يحاول أن يستفيد من وجوده أمام طلابه قدر الإمكان ليسجل ردود أفعالهم في رسالته، حتى أنه لم ينتبه لمحسن الذي أرسل له رسالة بأن هناك لجنة قادمة من الوزارة لمراقبة آداء المعلمين، وكيفية استفادة الطُلاب من المناهج الدراسية، دخل أحد أعضاء اللجنة للصف، وتبعه باقي الأعضاء، يستمعون لما يلقيه يوسف على مسامع طلابه، وهو منهمكًا للغاية حتى أوقفه مدير المدرسة:

– قيام يا أولاد.

توقف يوسف متفاجئًا بوجودهم، ووقف الطلبة لتحية ضيوفهم الذين بدى عليهم الاستياء التام، من عدم التزام معلم الفصل بشرح المنهج الدراسي، فخرجوا مسرعين مرة أخرى من الصف، وبعد انتهاء الحصة، تفاجىء يوسف بعد استدعاء المدير له بأنه مُحَوَّل للتحقيق:

– أقدر أفهم أنا عملت إيه؟

كان المدير يشعر بالغضب منه أيضًا، ويرى أن قرار اللجنة صائبًا، فقد قام بإنذار يوسف أكثر من مرة بأن يلتزم بالمنهج الدراسي، لكنه لم يستمع له ولو لمرة:

– هو المنهج ده مش له خطة زمنية ماشيين بيها، انت مش ملتزم بحاجة، وشغال بمزاجك يا يوسف رغم إني نبهتك.

– منهج إيه؟ وهو أنا كنت باتكلِّم معاهم في الكيميا،  أنا باتكلم في المادة بتاعتي، ولو انتم مهتمين بالحفظ والتلقين أكتر من الهدف الأساسي للتعليم، وأكتر من إن العيال دي تعرف تفكر وتطبق منهج الفلسفة في حياتها بشكل صح، دي مش مشكلتي.

– لما تروح التحقيق ابقى اشرح وجهة نظرك دي، أنا مش جهة تحقيق أصلًا، ولو بإيدي كنت أخدت ضدك إجراءات كتير.

امتنع يوسف عن الذهاب للتحقيق، فهو لم يرى أنه ارتكب ما يدينه، أو يضعه تحت طائلة القانون، أليس معلمًا للفلسفة، كيف يتم التحقيق معه لمجرد أنه كان يمارس عمله، الفلسفة في الأساس منهج تفكير، فكيف له أن يكون هو جهة تلقينية لتلاميذه دون أن يعلم أصول استعمال العقل!

بعد عدة أيام تم إتخاذ إجراءات تأديبية ضد يوسف، وفي المقابل قام يوسف بتقديم استقالته، متخليًا عن عمله وعن طلابه وراتبه، كان الجميع يرى أنه قرارًا مجنونًا، وخطوة غير محسوبة ستجعل يوسف يندم دون فرصة للعودة، بما فيهم محسن الذي اتصل به فور سماعه بقرار الاستقالة، متطوعًا بمحاولة أخيرة للإثناء يوسف عن قراره، كان يوسف ينتظر محسن في المقهى الذي اعتاد على الجلوس فيه دائمًا، لم يخشى من مصادفة “ملك” هناك لأنها كانت تذهب فقط للقاؤه، فكان يقضي هناك وقتًا أطول بأريحية، يراقب المراهقين من مرتادي المقهى، ويدون ملاحظاته عنهم ليسجلها في رسالته، وكان أحيانًا يقابل بعض طلابه الذين أصبحوا روادًا للمقهى بفضله، يتحدث معهم ويمارس عليهم شغفه بالحديث عن الفلسفة، بعد قليل دخل محسن، وهو يتأمل المكان بعينيه، ناظرًا حوله، ثم مثبتًا بصره على مكان ماكينة صنع القهوة، حتى باغته يوسف:

– خير يا محسن عاوزني ليه؟

– والله يا أستاذ يوسف، أنا بعت لك رسالة أنبهك من اللجنة بس انت مشوفتهاش.

قال يوسف بانفعال:

– تنبهني من إيه؟ أنا كنت باشوف شغلي وباشرح مادتي، مش واقف أقول لهم نكت.

– أيوة بس هما بيقولوا إن…

قاطعه يوسف محاولًا تغيير دفة الحوار فهو يعلم أن محسن لن يفهمه أبدًا:

– إيه رأيك في الكافيه ده؟

– الصراحة حاجة عَظَّمَة يعني، لو الواحد يشتغل هنا بس شوف العيال هنا شكلها عامل ازاي؟

صمت يوسف لثواني ثم عاد لسؤال محسن:

– إيه الفرق بينك وبينهم، أنا لما باقعد هنا السؤال ده بييجي في بالي دايمًا، وانت اللي هتجاوبني دلوقتي.

نظر محسن حوله، ثم توجه بصره ناحية نادل شاب مر بجانبهم:

– فرق كبير أوي يا أستاذ يوسف، يااااه! شوف هما عاملين ازاي، عيال شكلها ولاد ناس، اتعلموا وخلصوا تعليمهم، رافضين الوظيفة، محدش دلوقتي عاوز وظيفة، كلهم عاوزين يبقوا بهوات وأصحاب مشاريع، أنا مش باحسدهم والله، لكن أنا لو عندي مكان زي ده باعمل فيه شاي وقهوة خالي هيوافق يجوزني بنته… تخيل! رغم إنها نفس الوظيفة اللي هو معترض عليها.

– تقدر تشغل مكان زي ده لوحدك، هنا مختلف بالنسبة لبوفيه المدرسة؟

تغيرت نبرة محسن من اليأس إلى الحماس التام، وأخذ يشرح ليوسف عن إمكانياته في العمل، وكيف كان سريعًا في توصيل الشاي والقهوة وباقي المشروبات للعاملين بالمدرسة، مُدللًا على ذلك بأن يوسف نفسه كان يشيد بصنعه للقهوة،

– أنا قررت أفتح كافيه زي ده، تشاركني؟

صمت محسن وهو يشعر بالصدمة مما صرح به يوسف، فرك جبينه وهو يرد بأسى:

– ياريت بس أنا مفيش معايا فلوس وحالتي…

قاطعه يوسف بسرعة:

– مش محتاج غير مجهودك، أنا مش هاعمل لا شاي ولا قهوة، أنا هابقى شريك بالمكان وانت بموهبتك وصنعتك، والأرباح هتتقسم بيني وبينك.

لم يكن يوسف واثقًا من نجاح الفكرة، لكنه أراد إثبات شيىء ما لنفسه، قبل إثباته للمجتمع، أراد أن يساعد محسن، بخداع خاله بأن أوضاع محسن تغيَّرت، رغم أنه لازال يمارس نفس المهنة، كان الجميع يراه مجنونًا، ترك وظيفة ثابتة وأصبح شريكًا لعامل بوفيه المدرسة، لكنه ككل مرة كانت له فلسفته الخاصة.

أمام مقهى صغير، معلق على واجهته لافتة كبيرة بالخارج كُتِبَ عليها “إمبيريا” والتي تعني “التجربة” باليونانية، وقفت سيارة “يوسف” القديمة، وكان هو جالسًا على إحدى الطاولات الكبيرة داخل مقهاه الذي يمزج ما بين الحداثة والتراث، تصدح فيه أغنيات أم كلثوم، مصطفًا حوله بعض الزبائن من الشباب يتناقش معهم عائدًا لأمجاد تدريس الفلسفة، بينما كان “محسن” يتحرك بين الطاولات بخفة، كجزء من تفاصيل المكان الذي لا يكتمل بدونه.

كان كل شيء بالمقهى يقف بين الماضي والحاضر، وكأنه يحاول أن يبحث عن الاستقرار على زمن يناسبه، كصاحبه تمامًا.

 

 

جعلت يوسف يرى فيه الأب الذي فقده في صغره، فكان يلجأ له في كل مشكلة تخصه، وكان في كل مرة ينبهر من طريقة تفكيره في حل المشكلات وتفنيدها والبحث عن حلول، حتى ذهب له ذات يوم وأخبره أنه قرر أن يدرس الفلسفة، ليس هذا فحسب، بل سيكون معلمًا مثله تمامًا، وكان يجلس مع أسعد يفكران في كل شيء، يستمتع بالحديث معه الذي طال لسنوات حتى مرض أسعد وفارق الحياة، وترك تلميذه فيها وحيدًا، وكان عزاء يوسف الوحيد هو أنه قد حقق حلمه وتم تعيينه في نفس المدرسة التي كان يعمل بها أسعد، وقد تحقق هذا الحلم في أيام أسعد الأخيرة، مما جعله يهدي سيارته القديمة ليوسف كمكافأة على كل شيء، ولما حاول يوسف الرفض بدأ أسعد في استجداء عطفه وهو على فراش المرض: – يا يوسف انت كنت ابني، وتلميذي اللي ربنا بعتهولي هدية وأنا وحيد، العربية دي هتبقى ذكرى مني ليك، تفكرك بيَّ وانت أكتر واحد هيحافظ عليها، ومش هيستغنى عنها، وخليك فاكر إن انت الوحيد اللي بتفهمها، إوعى تسيبها يا يوسف. مر يوسف بوقت عصيب بعد وفاة “أسعد” لم يستطع أن يتخطاه إلا بانغماسه في العمل، وسط الطلاب، وكان امتلاكه لتلك السيارة القديمة، يجعله يشعر أنه لم يبتعد كثيرًا عن أسعد، ولم يكن مهتمًا أبدًا بنظرات وعبارات السخرية، عن السيارة، فلا أحد يعرف قيمته سواها. أفاق من ذكرياته على صوت رسالة استقبلها هاتفه من “ملك” تخبره فيها بضرورة مقابلته للضرورة، وأرسلت له مع الرسالة عنوانًا لأحد المطاعم الفاخرة، في تحدٍ منها له لأنه أخبرها مرارًا أنه لا يحب ارتياد هذه الأماكن التي تقدم خدمات عادية بأسعار مبالغ فيها لمجرد أن مرتادي
هذه الأماكن أشخاص استهلاكية تبحث عن التباهي والتفاخر، لكنه ذهب من أجلها، ولم يسلم بالطبع من التعليقات والنظرات وهو يقوم بصف سيارته في “جراج” المطعم، دخل من البوابة الكبيرة، إلى بوابة أصغر مصممة بالزجاج الملون الذي جعله يشعر بالانزعاج، تقدم نحو طاولة كبيرة تجلس عليها “ملك” وحيدة في انتظاره: – جلس أمامها ببطء، وأشار للنادل الذي أتى على خطى ثابتة، واضعًا أمامهم زجاجة كبيرة من المياه، وقائمة طعام تم تصميمها على شكل كتيبًا كبيرًا له غلاف زجاجي من الخارج، وضع يوسف الكتيب أمامه متجاهلًا إياه وطلب فنجانين من القهوة: – ملك… أنا آسف، رغم إني مش عارف إيه اللي مزعلك بس أنا آسف. كانت “ملك” صامتة ترمقه بغضب دون أي رد، فاستطرد: – يااااه، للدرجة دي زعلانة مني، طيب ممكن تقولي لي المفروض أعمل إيه علشان ترضي ونتصالح، عاوزاني أقول كلام حلو، يا ستي أنا باحبك، وماقدرش أستغنى عنك، ومستني اليوم اللي… قاطعته بحدة: – أنا مش عاوزة أكمِّل. نظر لها بملامح متفاجئة، بتبص لي كده ليه… اتفاجئت! هو من يوم ما اتقابلنا آخر مرة فكرت تكلمني، فكرت تتطمن عليَّ كويسة ولا زعلانة ولا نايمة معيطة حتى! – مش قلتِ نفكَّر! – يوسف على فكرة انت غبي، وبطيء الاستيعاب، ومبتعرفش تتعامل مع ستات ولا بتعرف تحب حد أصلًا، انت تخليك مع الفلسفة بتاعتك والعيال الصغيرة اللي انت شاغل نفسك بيهم، وتنسى حوار الجواز ده علشان متظلمش حد معاك، شوف لك جبل ولا صحرا وروح عيش هناك تأمل براحتك، ولغاية ما تفهم الحياة الحقيقية، وبعدها تقابل واحدة دماغها ضاربة زيك؛ هاكون أنا عملت حاجات كتير في حياتي انت معطلني عنها، طول الوقت شاغلة نفسي بيك وبطريقتك السخيفة وانت عايش في عالم
مع نفسك… وعلى فكرة أنا قصدت أجيبك هنا علشان تشوف الواقع اللي انت متعرفوش، يمكن تفوق بعد الشر. أعطته “ملك” قبل أن تغادر “خاتم” خطبتها في مشهد تقليدي للغاية يشبه فراق البطلة للبطل في الأفلام الرومانسية الحزينة، لم يتعجب يوسف من فعل ملك، لكنه تعجب من رد فعله على تصرفها، لم يشعر بالحزن، لم يخرج خلفها ليلاحقها، بل جلس واحتسى القهوة التي أتى بها النادل بعد قليل، لم يعجبه مذاقها، وبخبرة رجل يشرب القهوة منذ زمن بعيد، عرف أنها مغشوشة ورديئة، دفع المبلغ  المدون أسفل الفاتورة غاضبًا وغادر بعدها بقليل، قضى يومًا عاديًا بين الأبحاث والمراجع، وجلس يدون ما يلاحظه بردود أفعال الطلاب وتقبلهم لمفهوم الفلسفة في سن صغيرة، وهل يمكن أن تكون سببًا في تغيير أسلوبهم في التفكير كما حدث معه في صغره، أم أن الأمر كله يتعلق بظهور “أسعد” في حياته، وكتب تساؤلًا على الهامش، هل يمكن أن يصبح أبًا روحيًا لأحدهم في يوم من الأيام؟ تذكَّر ملك، ووجد أنه أكثر ارتياحًا الآن، لم يكن يدرك أنه لم يحب ملك أصلًا، لكنه أحب ارتباطها به، ربما رأى فيها “يوسف” صغيرًا، كان يريد أن يقوم في حياتها بدور أسعد، أدرك هذه الحقيقة الآن وفقط بعد أن تركته، أدرك الفرق بينهما، لم تكن ملك بحاجة إلى “عرّّاب” يرشدها، لكنها كانت بحاجة لرجل يحبها ويُشعرها بأنوثتها، لذلك توهمت أنه هذا الرجل كما توهم هو أنها ستكون تلميذة تتبع إرشاداته، كان سعيدًا بفكرة أنها لديها الوعي لتتوقف عن السير في هذه العلاقة الفاشلة قبل فوات الآوان. في صباح جديد يقف أمام طلابه، يتحدث لهم عن أهمية التأمل في تجاربهم الحياتية التي يمكن أن تؤثر على اختياراتهم فيما بعد، كان يسترسل في الحديث بعيدًا عن المنهج الدراسي، كان يحاول أن يستفيد من وجوده أمام طلابه قدر الإمكان ليسجل ردود أفعالهم في رسالته، حتى أنه لم ينتبه لمحسن الذي أرسل له رسالة بأن هناك لجنة قادمة من الوزارة لمراقبة آداء المعلمين، وكيفية استفادة الطُلاب من المناهج الدراسية، دخل أحد أعضاء اللجنة للصف، وتبعه باقي الأعضاء، يستمعون لما يلقيه يوسف على مسامع طلابه، وهو منهمكًا للغاية حتى أوقفه مدير المدرسة: – قيام يا أولاد. توقف يوسف متفاجئًا بوجودهم، ووقف الطلبة لتحية ضيوفهم الذين بدى عليهم الاستياء التام، من عدم التزام معلم الفصل بشرح المنهج الدراسي، فخرجوا مسرعين مرة أخرى من الصف، وبعد انتهاء الحصة، تفاجىء يوسف بعد استدعاء المدير له بأنه مُحَوَّل للتحقيق: – أقدر أفهم أنا عملت إيه؟ كان المدير يشعر بالغضب منه أيضًا، ويرى أن قرار اللجنة صائبًا، فقد قام بإنذار يوسف أكثر من مرة بأن يلتزم بالمنهج الدراسي، لكنه لم يستمع له ولو لمرة: – هو المنهج ده مش له خطة زمنية ماشيين بيها، انت مش ملتزم بحاجة، وشغال بمزاجك يا يوسف رغم إني نبهتك. – منهج إيه؟ وهو أنا كنت باتكلِّم معاهم في الكيميا،  أنا باتكلم في المادة بتاعتي، ولو انتم مهتمين بالحفظ والتلقين أكتر من الهدف الأساسي للتعليم، وأكتر من إن العيال دي تعرف تفكر وتطبق منهج الفلسفة في حياتها بشكل صح، دي مش مشكلتي. – لما تروح التحقيق ابقى اشرح وجهة نظرك دي، أنا مش جهة تحقيق أصلًا، ولو بإيدي كنت أخدت ضدك إجراءات كتير. امتنع يوسف عن الذهاب للتحقيق، فهو لم يرى أنه ارتكب ما يدينه، أو يضعه تحت طائلة القانون، أليس معلمًا للفلسفة، كيف يتم التحقيق معه لمجرد أنه كان يمارس عمله، الفلسفة في الأساس منهج تفكير، فكيف له أن يكون هو جهة تلقينية لتلاميذه دون أن يعلم أصول استعمال العقل! بعد عدة أيام تم إتخاذ إجراءات تأديبية ضد يوسف، وفي المقابل قام يوسف بتقديم استقالته، متخليًا عن عمله وعن طلابه وراتبه، كان الجميع يرى أنه قرارًا مجنونًا، وخطوة غير محسوبة ستجعل يوسف يندم دون فرصة للعودة، بما فيهم محسن الذي اتصل به فور سماعه بقرار الاستقالة، متطوعًا بمحاولة أخيرة للإثناء يوسف عن قراره، كان يوسف ينتظر محسن في المقهى الذي اعتاد على الجلوس فيه دائمًا، لم يخشى من مصادفة “ملك” هناك لأنها كانت تذهب فقط للقاؤه، فكان يقضي هناك وقتًا أطول بأريحية، يراقب المراهقين من مرتادي المقهى، ويدون ملاحظاته عنهم ليسجلها في رسالته، وكان أحيانًا يقابل بعض طلابه الذين أصبحوا روادًا للمقهى بفضله، يتحدث معهم ويمارس عليهم شغفه بالحديث عن الفلسفة، بعد قليل دخل محسن، وهو يتأمل المكان بعينيه، ناظرًا حوله، ثم مثبتًا بصره على مكان ماكينة صنع القهوة، حتى باغته يوسف: – خير يا محسن عاوزني ليه؟ – والله يا أستاذ يوسف، أنا بعت لك رسالة أنبهك من اللجنة بس انت مشوفتهاش. قال يوسف بانفعال: – تنبهني من إيه؟ أنا كنت باشوف شغلي وباشرح مادتي، مش واقف أقول لهم نكت. – أيوة بس هما بيقولوا إن… قاطعه يوسف محاولًا تغيير دفة الحوار فهو يعلم أن محسن لن يفهمه أبدًا: – إيه رأيك في الكافيه ده؟ – الصراحة حاجة عَظَّمَة يعني، لو الواحد يشتغل هنا بس شوف العيال هنا شكلها عامل ازاي؟ صمت يوسف لثواني ثم عاد لسؤال محسن: – إيه الفرق بينك وبينهم، أنا لما باقعد هنا السؤال ده بييجي في بالي دايمًا، وانت اللي هتجاوبني دلوقتي. نظر محسن حوله، ثم توجه بصره ناحية نادل شاب مر بجانبهم: – فرق كبير أوي يا أستاذ يوسف، يااااه! شوف هما عاملين ازاي، عيال شكلها ولاد ناس، اتعلموا وخلصوا تعليمهم، رافضين الوظيفة، محدش دلوقتي عاوز وظيفة، كلهم عاوزين يبقوا بهوات وأصحاب مشاريع، أنا مش باحسدهم والله، لكن أنا لو عندي مكان زي ده باعمل فيه شاي وقهوة خالي هيوافق يجوزني بنته… تخيل! رغم إنها نفس الوظيفة اللي هو معترض عليها. – تقدر تشغل مكان زي ده لوحدك، هنا مختلف بالنسبة لبوفيه المدرسة؟ تغيرت نبرة محسن من اليأس إلى الحماس التام، وأخذ يشرح ليوسف عن إمكانياته في العمل، وكيف كان سريعًا في توصيل الشاي والقهوة وباقي المشروبات للعاملين بالمدرسة، مُدللًا على ذلك بأن يوسف نفسه كان يشيد بصنعه للقهوة، – أنا قررت أفتح كافيه زي ده، تشاركني؟ صمت محسن وهو يشعر بالصدمة مما صرح به يوسف، فرك جبينه وهو يرد بأسى: – ياريت بس أنا مفيش معايا فلوس وحالتي… قاطعه يوسف بسرعة: – مش محتاج غير مجهودك، أنا مش هاعمل لا شاي ولا قهوة، أنا هابقى شريك بالمكان وانت بموهبتك وصنعتك، والأرباح هتتقسم بيني وبينك. لم يكن يوسف واثقًا من نجاح الفكرة، لكنه أراد إثبات شيىء ما لنفسه، قبل إثباته للمجتمع، أراد أن يساعد محسن، بخداع خاله بأن أوضاع محسن تغيَّرت، رغم أنه لازال يمارس نفس المهنة، كان الجميع يراه مجنونًا، ترك وظيفة ثابتة وأصبح شريكًا لعامل بوفيه المدرسة، لكنه ككل مرة كانت له فلسفته الخاصة. أمام مقهى صغير، معلق على واجهته لافتة كبيرة بالخارج كُتِبَ عليها “إمبيريا” والتي تعني “التجربة” باليونانية، وقفت سيارة “يوسف” القديمة، وكان هو جالسًا على إحدى الطاولات الكبيرة داخل مقهاه الذي يمزج ما بين الحداثة والتراث، تصدح فيه أغنيات أم كلثوم، مصطفًا حوله بعض الزبائن من الشباب يتناقش معهم عائدًا لأمجاد تدريس الفلسفة، بينما كان “محسن” يتحرك بين الطاولات بخفة، كجزء من تفاصيل المكان الذي لا يكتمل بدونه. كان كل شيء بالمقهى يقف بين الماضي والحاضر، وكأنه يحاول أن يبحث عن الاستقرار على زمن يناسبه، كصاحبه تمامًا.    
تم نسخ الرابط