إمبيريا

إمبيريا
إمبيريا

كان يود أن يخبره أيضًا بأنه يسير بخُطى ثابتة على طريق والده، سيرتكب نفس الأخطاء، سيتزوج وينجب قطيعًا آخر، ثم يضحي بتعليم أحد أبناؤه ليصبح محسن جديد، لكنه أثر الصمت، فلا فائدة الكلام سوى أنه سيكتسب عداوة محسن.

أنهى يوسف عمله، وغادر المدرسة، كان لافتًا للنظر نظرات طلاب الصف الأول له، منهم من ينظر له بريبة، ومنهم من يبدو على نظرته الانبهار، لكن تبدلت نظرات الريبة والانبهار وتبَّدلت بنظرات سخرية، بعدما أقلَّته سيارته الصغيرة، كانت قديمة الطراز كتلك السيارات التي تظهر في أفلام السبعينات، ورغم أعطالها، وجلبها للسخرية لكنها كانت سيارته المفضلة.

أمسك هاتفه وحاول الاتصال بخطيبته ملك لكنها لم ترد كالعادة، فأرسل لها رسالة، نفس الرسالة التي يرسلها لها يوميًا:

– منتظرك في الكافيه.

جلس ينتظرها في مقهى صغير للغاية لكنه على طراز عصري، يديره شاب صغير ومعه مجموعة من أصدقاؤه، يعملون في المقهى بكل حب، لديهم نشاط وكأنهم يمارسون هواية أو يتبادلون الأدوار في لعبة اختاروها وقاموا بتوزيع أدوارها، هذا يقوم بتوزيع الطلبات، وهذه تصنع القهوة أو كما يطلقون عليها “باريستا” وآخر يقوم بتنظيف المكان، تخلوا جميعًا عن تلك الرسميات المتعلقة بالعمل، يجتمعون حول هاتف أحدهم ليريهم فيديو طريف، ويتبادلون النكات ذهابًا وإيابًا، يستمعون لأغنيات عمرو دياب التي تصدح في المقهى طوال الوقت، وبعض المطربين الأخرين الذين لا يعرف أسماؤهم، كان زبائن المقهى يشبهون أصحابه تمامًا، فهم يحدثون الضوضاء بشكل لافت للنظر، يتحدثون بصوت عالٍ عن كل شيء، لدرجة أن ضوضائهم كانت تطغى على أي شيء آخر، حتى صوت الأغاني، عن صوت مطربي تلك الأغاني المزعجة، لدرجة أنه ذات مرة سمع عاملتان تتحدثان بصوت واضح عن فوائد نبات “الِّلفت” وكيف أن والدة

إحداهن تصنع منه “مخللًا” شهيًا، كما أنهم وضعوا شرطًا للزبائن قاموا بتعليقه على لافتة كُتِب عليها” نحن نصنع لك القهوة ونعطي لك البهجة، فمن فضلك أترك مكانك نظيفًا” لذلك كانت جميع الطاولات تعود لهيئتها الطبيعية بعد مغادرة الزبائن الصغار، مصطحبين معهم أكوابهم الورقية ليودعونها إلى مثواها الأخير في سلة المهملات، هؤلاء الشبان يفعلون نفس ما يفعله محسن تمامًا، لكن بإرادتهم… هل الأمر نصيب كما أخبره منذ قليل… لا يدري لما تذكر محسن الآن؟

كان يتعجب من هذا الجيل ويتمنى في نفسه لو أنه كان في مثل عمرهم، كان سيفعل أي شيء يريده، ربما ما كان سلك طريقًا آخر غير مهنة تدريس الفلسفة التي أختارها بكامل إرادته، كان يريد أن يعيش جنونهم، يستمع لعمرو دياب ثم في لحظة يستمع لشخص آخر يخرج صوته من حنجرته مجهدًا وكأنه مصابًا بالبرد، يدفع مبالغ طائلة بالذهاب للحفلات الغنائية ويعود للمنزل في وقت متأخر يستذكر صفحات قليلة لامتحان الغد، حياة مجنونة أراد تجربتها، لذلك كان يحاول دائما التقرب من طلابه، والعيش داخل مشاكلهم واختار أن يكون موضوع رسالته عن الفلسفة والمراهقة.

ورغم الشعور بالاغتراب الذي كان يلازمه طوال فترة وجوده بالمقهى إلا أنه كان يفضل الجلوس فيه بحجة أنهم يصنعون قهوة شهية لا يوجد لها نظير في مكان آخر، يحب الجلوس في هذا المقهى بالتحديد ينتظر خطيبته “ملك” يتحدثان قليلًا بعد العمل ويدعوها للغذاء ويذهب كلٍ منهم في طريقه، علاقته بملك لا تختلف كثيرًا عن شخصيته، لا يبالي بشيء سوى أن يراها، ثم يتحدثان قليلًا، يعرف كل منهم أن الآخر بخير ثم يغادران، والزواج مسألة حتمية لهذه العلاقة لكن لكل شيء وقته، هو الآن يريد أن ينتهي من رسالة الماجستير، لا شيء في الحياة يستحق العناء والحروب، واللهث، حتى الزواج، طالما هناك حب، لكن “ملك” لم تكن متفقة تمامًا مع هذه الفكرة، كان الأمر يحوز على إعجابها في باديء الأمر، يوسف لديه جنون من نوع خاص، يتحدث كثيرًا بأشياء غير مفهومة لأغلب الناس، لكنها كانت تفهمه، أحبت من خلاله الفلسفة وتعرَّفت على الفلاسفة، تناقشا واختلفا عن نيتشة، وسقراط، واتخذ كل منهما فريقًا، وكأنه قرر أن يشجع فريقًا كُرويًا، كانت علاقة مختلفة تمامًا، بعدما تعرَّفا على بعضهما البعض في إحدى المكتبات العامة وتبادلا النقاش في أحد الأمور المتعلقة بالفلسفة، لم تكن مهتمة في باديء الأمر بما يتحدث فيه، لكنها انبهرت بشخصيته وأسلوبه، فحديثه جذاب ويعرف كيف يجذب انتباه الآخرين، لكنها بعد ذلك اهتمت بكامل تفاصيله، وعرفت أنه شخصًا مختلفًا لذلك هي من بادرت بالتصريح عن مشاعرها قبله، وبعد فترة من التعارف قررا الزواج وتمت الخطبة، لكنها الآن لا تريد الحديث عن سقراط ونيتشة، تريد فقط أن تجلس بجوار خطيبها، تستمع لتلك الكلمات التي تحب أن تسمعها الفتيات، لكن يوسف لم يدرك ذلك أبدًا.

أتت “ملك” وجلست أمام يوسف وهي مبتسمة، فبادلها الابتسام وقام بطلب القهوة لكلاهما:

– يوسف يا حبيبي هو انت مزهقتش من المكان ده؟

– انتِ زهقتي… طيب ليه مبتقوليش؟

– قُلت، ولَمَّحت لك كذا مرة إننا نغيَّر الكافيه ده وانت مبترضاش، لولا إني عارفاك كويس كنت قلت إنك معجب ببنت من اللي شغالين هنا؟

ضحك يوسف ونظر لها وهو ينظر على الفتيات من حوله:

– الحقيقة أنا فعلًا معجب بيهم كلهم.

رمقته ملك بنظرة غضب فأردف:

– معجب بطريقتهم كلهم، الولاد والبنات هنا مش البنات بس، تفتكري يا ملك إيه الفرق بينهم وبين محسن؟

– محسن مين… بتاع البوفيه، جايبني نتكلم عن محسن؟

– لأ مش عن محسن تحديدًا يعني، لكن فعلًا محتاج أتكلم في الموضوع ده شوية لأنه فعلًا يستحق الدراسة.

فقدت الأمل في الحصول على مقابلة رومانسية كبقية المحبين واستسلمت للحديث معه:

– فرق أجيال يا يوسف، اسمع الأغاني اللي مشغلينها كده، كلها كلام عن الطاقة والأمل وقد إيه هما جامدين ومفيش حاجة ممكن توقفهم، وبص على محسن، من جيلنا عادي، زينا بالظبط، التحوُّل اللي حصل للناس في السنين اللي فاتت هو اللي بيخلي الفرق ده يحصل، اللي بيخليك تدفع خمسة جنيه في قهوة بلدي علشان شربت كوباية شاي أخضر، ويخليك تدفع خمسين جنيه في نفس كوباية الشاي الاخضر علشان شربتها في كافيه زي ده، الولاد دي زي محسن موضوعًا، لكن شكلًا لأ.

كان يستمع لها بإنصات بينما ينظر لشاب من العاملين يحمل صينية موضوعًا عليها، كعكة خضراء اللون، فباغتها وهو يضحك:

– موضوعًا مش شكلًا بتاعتك دي فكرتني بالفستق اللي بقى بستاشيو.

صمتت قليلًا وهي ترتشف من قهوتها ثم ابتسمت بمرارة، قبل أن أن يطلب الحساب ويغادرا المكان:

– الفلسفة أكلت دماغك يا يوسف وجننتك.

لم تكن لديه رغبة في دراسة الفلسفة، ولما رغب بها لم يشجعه أحد، فالفلسفة ليست تلك المادة الدراسية التي يمكن أن يتربح منها المعلم، بل على العكس ، فيراها البعض عبارة عن ثرثرة، ويرى البعض الآخر أنها طريقًا للجنون، كان ينتوي أن يدرس الهندسة، وتحديدا هندسة الميكانيكا، فمنذ صغره كان مهتمًا بمواتير السيارات، وأنواعها، لدرجة أنه ذهب للعمل بورشة ميكانيكا في أحد عطلات الصيف، كان يحب أن يشاهد الأسطى “بدوي” وهو يتأمل موتور السيارة كطبيب، يفحص مريضه ثم يخبر مرافقه بالمرض والعلاج، كان يرى الطب، وهندسة الميكانيكا وجهان لعملة واحدة، سعيدًا بفكرة العمل والكسب والاستقلال المادي لمدة شهر، حتى أتى رجل أنيقا طاعنا في السن لديه سيارة قديمة ماركة “شيفروليه”، وكان ذو هيبة وله وقارا خاص، شعر ناحيته بانبهار عجيب، طلب الرجل من الأسطى بدوي تغيير بعض قطع الغيار التالفة في سيارته، وفي هذه اللحظة لم تتغير سوى حياته.

خرجا من المقهى وهي تحاول أن تلفت انتباهه بأنها خطيبته، وتحتاج لبعض الاهتمام منه، تمامًا كما يهتم بمحسن:

– لغاية إمتى يا يوسف؟

وضع يديه في جيوب معطفه وهو ينظر لها متسائلًا:

– لغاية إمتى إيه يا ملك؟

– هو انت بجد مش فاهم، يعني ساعات باحس إنك بتتعمد تبيِّن لي إن انت مش بتفهم كلامي علشان تهرب من الإجابة!

– ده افتراض مش إحساس، ليه بتفترضي حاجة زي دي وأنا بجد مش فاهم!

كان يود أن يخبره أيضًا بأنه يسير بخُطى ثابتة على طريق والده، سيرتكب نفس الأخطاء، سيتزوج وينجب قطيعًا آخر، ثم يضحي بتعليم أحد أبناؤه ليصبح محسن جديد، لكنه أثر الصمت، فلا فائدة الكلام سوى أنه سيكتسب عداوة محسن. أنهى يوسف عمله، وغادر المدرسة، كان لافتًا للنظر نظرات طلاب الصف الأول له، منهم من ينظر له بريبة، ومنهم من يبدو على نظرته الانبهار، لكن تبدلت نظرات الريبة والانبهار وتبَّدلت بنظرات سخرية، بعدما أقلَّته سيارته الصغيرة، كانت قديمة الطراز كتلك السيارات التي تظهر في أفلام السبعينات، ورغم أعطالها، وجلبها للسخرية لكنها كانت سيارته المفضلة. أمسك هاتفه وحاول الاتصال بخطيبته ملك لكنها لم ترد كالعادة، فأرسل لها رسالة، نفس الرسالة التي يرسلها لها يوميًا: – منتظرك في الكافيه. جلس ينتظرها في مقهى صغير للغاية لكنه على طراز عصري، يديره شاب صغير ومعه مجموعة من أصدقاؤه، يعملون في المقهى بكل حب، لديهم نشاط وكأنهم يمارسون هواية أو يتبادلون الأدوار في لعبة اختاروها وقاموا بتوزيع أدوارها، هذا يقوم بتوزيع الطلبات، وهذه تصنع القهوة أو كما يطلقون عليها “باريستا” وآخر يقوم بتنظيف المكان، تخلوا جميعًا عن تلك الرسميات المتعلقة بالعمل، يجتمعون حول هاتف أحدهم ليريهم فيديو طريف، ويتبادلون النكات ذهابًا وإيابًا، يستمعون لأغنيات عمرو دياب التي تصدح في المقهى طوال الوقت، وبعض المطربين الأخرين الذين لا يعرف أسماؤهم، كان زبائن المقهى يشبهون أصحابه تمامًا، فهم يحدثون الضوضاء بشكل لافت للنظر، يتحدثون بصوت عالٍ عن كل شيء، لدرجة أن ضوضائهم كانت تطغى على أي شيء آخر، حتى صوت الأغاني، عن صوت مطربي تلك الأغاني المزعجة، لدرجة أنه ذات مرة سمع عاملتان تتحدثان بصوت واضح عن فوائد نبات “الِّلفت” وكيف أن والدة
إحداهن تصنع منه “مخللًا” شهيًا، كما أنهم وضعوا شرطًا للزبائن قاموا بتعليقه على لافتة كُتِب عليها” نحن نصنع لك القهوة ونعطي لك البهجة، فمن فضلك أترك مكانك نظيفًا” لذلك كانت جميع الطاولات تعود لهيئتها الطبيعية بعد مغادرة الزبائن الصغار، مصطحبين معهم أكوابهم الورقية ليودعونها إلى مثواها الأخير في سلة المهملات، هؤلاء الشبان يفعلون نفس ما يفعله محسن تمامًا، لكن بإرادتهم… هل الأمر نصيب كما أخبره منذ قليل… لا يدري لما تذكر محسن الآن؟ كان يتعجب من هذا الجيل ويتمنى في نفسه لو أنه كان في مثل عمرهم، كان سيفعل أي شيء يريده، ربما ما كان سلك طريقًا آخر غير مهنة تدريس الفلسفة التي أختارها بكامل إرادته، كان يريد أن يعيش جنونهم، يستمع لعمرو دياب ثم في لحظة يستمع لشخص آخر يخرج صوته من حنجرته مجهدًا وكأنه مصابًا بالبرد، يدفع مبالغ طائلة بالذهاب للحفلات الغنائية ويعود للمنزل في وقت متأخر يستذكر صفحات قليلة لامتحان الغد، حياة مجنونة أراد تجربتها، لذلك كان يحاول دائما التقرب من طلابه، والعيش داخل مشاكلهم واختار أن يكون موضوع رسالته عن الفلسفة والمراهقة. ورغم الشعور بالاغتراب الذي كان يلازمه طوال فترة وجوده بالمقهى إلا أنه كان يفضل الجلوس فيه بحجة أنهم يصنعون قهوة شهية لا يوجد لها نظير في مكان آخر، يحب الجلوس في هذا المقهى بالتحديد ينتظر خطيبته “ملك” يتحدثان قليلًا بعد العمل ويدعوها للغذاء ويذهب كلٍ منهم في طريقه، علاقته بملك لا تختلف كثيرًا عن شخصيته، لا يبالي بشيء سوى أن يراها، ثم يتحدثان قليلًا، يعرف كل منهم أن الآخر بخير ثم يغادران، والزواج مسألة حتمية لهذه العلاقة لكن لكل شيء وقته، هو الآن يريد أن ينتهي
من رسالة الماجستير، لا شيء في الحياة يستحق العناء والحروب، واللهث، حتى الزواج، طالما هناك حب، لكن “ملك” لم تكن متفقة تمامًا مع هذه الفكرة، كان الأمر يحوز على إعجابها في باديء الأمر، يوسف لديه جنون من نوع خاص، يتحدث كثيرًا بأشياء غير مفهومة لأغلب الناس، لكنها كانت تفهمه، أحبت من خلاله الفلسفة وتعرَّفت على الفلاسفة، تناقشا واختلفا عن نيتشة، وسقراط، واتخذ كل منهما فريقًا، وكأنه قرر أن يشجع فريقًا كُرويًا، كانت علاقة مختلفة تمامًا، بعدما تعرَّفا على بعضهما البعض في إحدى المكتبات العامة وتبادلا النقاش في أحد الأمور المتعلقة بالفلسفة، لم تكن مهتمة في باديء الأمر بما يتحدث فيه، لكنها انبهرت بشخصيته وأسلوبه، فحديثه جذاب ويعرف كيف يجذب انتباه الآخرين، لكنها بعد ذلك اهتمت بكامل تفاصيله، وعرفت أنه شخصًا مختلفًا لذلك هي من بادرت بالتصريح عن مشاعرها قبله، وبعد فترة من التعارف قررا الزواج وتمت الخطبة، لكنها الآن لا تريد الحديث عن سقراط ونيتشة، تريد فقط أن تجلس بجوار خطيبها، تستمع لتلك الكلمات التي تحب أن تسمعها الفتيات، لكن يوسف لم يدرك ذلك أبدًا. أتت “ملك” وجلست أمام يوسف وهي مبتسمة، فبادلها الابتسام وقام بطلب القهوة لكلاهما: – يوسف يا حبيبي هو انت مزهقتش من المكان ده؟ – انتِ زهقتي… طيب ليه مبتقوليش؟ – قُلت، ولَمَّحت لك كذا مرة إننا نغيَّر الكافيه ده وانت مبترضاش، لولا إني عارفاك كويس كنت قلت إنك معجب ببنت من اللي شغالين هنا؟ ضحك يوسف ونظر لها وهو ينظر على الفتيات من حوله: – الحقيقة أنا فعلًا معجب بيهم كلهم. رمقته ملك بنظرة غضب فأردف: – معجب بطريقتهم كلهم، الولاد والبنات هنا مش البنات بس، تفتكري يا ملك إيه الفرق بينهم وبين محسن؟ – محسن مين… بتاع البوفيه، جايبني نتكلم عن محسن؟ – لأ مش عن محسن تحديدًا يعني، لكن فعلًا محتاج أتكلم في الموضوع ده شوية لأنه فعلًا يستحق الدراسة. فقدت الأمل في الحصول على مقابلة رومانسية كبقية المحبين واستسلمت للحديث معه: – فرق أجيال يا يوسف، اسمع الأغاني اللي مشغلينها كده، كلها كلام عن الطاقة والأمل وقد إيه هما جامدين ومفيش حاجة ممكن توقفهم، وبص على محسن، من جيلنا عادي، زينا بالظبط، التحوُّل اللي حصل للناس في السنين اللي فاتت هو اللي بيخلي الفرق ده يحصل، اللي بيخليك تدفع خمسة جنيه في قهوة بلدي علشان شربت كوباية شاي أخضر، ويخليك تدفع خمسين جنيه في نفس كوباية الشاي الاخضر علشان شربتها في كافيه زي ده، الولاد دي زي محسن موضوعًا، لكن شكلًا لأ. كان يستمع لها بإنصات بينما ينظر لشاب من العاملين يحمل صينية موضوعًا عليها، كعكة خضراء اللون، فباغتها وهو يضحك: – موضوعًا مش شكلًا بتاعتك دي فكرتني بالفستق اللي بقى بستاشيو. صمتت قليلًا وهي ترتشف من قهوتها ثم ابتسمت بمرارة، قبل أن أن يطلب الحساب ويغادرا المكان: – الفلسفة أكلت دماغك يا يوسف وجننتك. لم تكن لديه رغبة في دراسة الفلسفة، ولما رغب بها لم يشجعه أحد، فالفلسفة ليست تلك المادة الدراسية التي يمكن أن يتربح منها المعلم، بل على العكس ، فيراها البعض عبارة عن ثرثرة، ويرى البعض الآخر أنها طريقًا للجنون، كان ينتوي أن يدرس الهندسة، وتحديدا هندسة الميكانيكا، فمنذ صغره كان مهتمًا بمواتير السيارات، وأنواعها، لدرجة أنه ذهب للعمل بورشة ميكانيكا في أحد عطلات الصيف، كان يحب أن يشاهد الأسطى “بدوي” وهو يتأمل موتور السيارة كطبيب، يفحص مريضه ثم يخبر مرافقه بالمرض والعلاج، كان يرى الطب، وهندسة الميكانيكا وجهان لعملة واحدة، سعيدًا بفكرة العمل والكسب والاستقلال المادي لمدة شهر، حتى أتى رجل أنيقا طاعنا في السن لديه سيارة قديمة ماركة “شيفروليه”، وكان ذو هيبة وله وقارا خاص، شعر ناحيته بانبهار عجيب، طلب الرجل من الأسطى بدوي تغيير بعض قطع الغيار التالفة في سيارته، وفي هذه اللحظة لم تتغير سوى حياته. خرجا من المقهى وهي تحاول أن تلفت انتباهه بأنها خطيبته، وتحتاج لبعض الاهتمام منه، تمامًا كما يهتم بمحسن: – لغاية إمتى يا يوسف؟ وضع يديه في جيوب معطفه وهو ينظر لها متسائلًا: – لغاية إمتى إيه يا ملك؟ – هو انت بجد مش فاهم، يعني ساعات باحس إنك بتتعمد تبيِّن لي إن انت مش بتفهم كلامي علشان تهرب من الإجابة! – ده افتراض مش إحساس، ليه بتفترضي حاجة زي دي وأنا بجد مش فاهم!
تم نسخ الرابط