في قبضة الوهم

في قبضة الوهم
في قبضة الوهم

ما رأته أمامها كان كفيلًا بأن يشل حركتها، وكأن صاعقة ضربتها في موضعها.

فارس، نصفه العلوي عارٍ تمامًا، يجلس في استرخاء تام، بينما تقف ماهي خلفه، تدلك كتفيه وظهره ببطء وابتسامة واسعة تمتد على شفتيها، لم يكن المشهد مجرد عناية أم بابنها المرهق، بل كان يحمل بين تفاصيله شيئًا أكثر خبثًا… وأكثر خطورة.

شعرت نرمين بأنفاسها تتلاحق، لكنها لم تكن مستعدة لما حدث بعدها؛ حينما انحنت ماهي نحو فارس، وطبعت قبلة طويلة على عنقه، قبل أن تزحف بشفتيها نحو وجهه، ليقابلها هو بالمثل بحميمية واضحة!

عقدت نرمين كفيها فوق فمها، تكتم شهقة رعب كادت تفلت منها، وارتدت خطوة إلى الخلف بعنف، كأنها تحاول الهروب من المشهد المريع الذي انطبع في ذاكرتها إلى الأبد، تسارعت دقات قلبها بجنون، وتدفقت عبارات الذعر من بين شفتيها المرتعشتين:

-استغفر الله العظيم… استغفر الله العظيم… يا لهوي! هو و…أمه؟! إزاي؟! إزاي؟! يا ليلة سودا! يا حبيبتي يا ست رقية، على الهم اللي إنتي فيه!

أدارت جسدها بسرعة، تحمل الصندوق بين يديها كمن يحمل ثقلًا لا يُطاق، وتقدمت في خطوات متعثرة نحو غرفة رقية، كافحت لتتماسك، لكنها فشلت، فقد بدا توترها جليًا وهي تطرق الباب بيد مرتعشة.

فتحت رقية الباب، وعيناها متورمتان من البكاء، لكنها لم تنتبه إلى حالة نرمين المتوترة، بل التقطت منها الصندوق وأغلقت الباب مرة أخرى دون أن تنبس بكلمة.

وقفت نرمين مكانها للحظات، مترددة بين طرق الباب مجددًا أو الرحيل، عقلها يعصف بأفكار متضاربة؛ هل تخبرها بالحقيقة الآن؟ أم أن وقع الصدمة سيكون مدمرًا عليها؟ وماذا لو لم تصدقها؟ فهي في النهاية خادمة، بينما فارس هو زوجها وحبها الأول، والرجل الذي طالما وضعت ثقتها فيه.

زفرت بعمق، ثم قررت الصمت،

على الأقل حتى يحين الوقت المناسب، استدارت لتغادر، لكن عقلها ظل مثقلًا بذلك السر القذر الذي اكتشفته…وبالسؤال الذي لم تجد له إجابة، هل سيأتي اليوم الذي ترى فيه رقية الحقيقة؟ أم أن الحب سيبقى ستارًا يحجب عنها كل شيء؟!

***

في اليوم التالي…

جلست رقية وسط صديقاتها في النادي، لكن عقلها كان شاردًا في مكان آخر، غارقًا في دوامة من الأفكار المتشابكة، تبحث عن حل يعيد التوازن إلى حياتها بعدما تزعزعت علاقتها مع فارس.

منذ الصباح، أبلغها بقراره الحاسم، التخلي عن العمل معها نهائيًا، مؤكدًا أنه لا يتشرف بالاستمرار في شركة لا تثق به مالكتها.

حاولت كثيرًا استرضاءه، ولكن دون جدوى، فقد غادر غاضبًا، مصممًا على موقفه، ولم يكن الأمر مقتصرًا عليه وحده، بل حتى ماهي، التي ألقت عليها اللوم بالكامل، متبرئة من التدخل في الأمر، لا تزال كلماتها الجارحة ترن في أذنها.

“-حبيبتي سوري يعني انتي كنتي غبية اوي وانتي بتتعاملي مع جوزك، وبعدين انتي شكيتي فيه وواثقة في اهلك اللي يا ما بابكي حذرك منهم!!”

قطع شرودها يدٌ تربت على كتفها برفق، وصوت صديقتها يقول بابتسامة:

-روكا، سلمي على دكتور كمال عزام صديقي وصديق العيلة.

رفعت رقية رأسها، ومدت يدها لتصافح الرجل بلباقة، قائلة بابتسامة بسيطة:

-اهلاً يا دكتور، أنا رقية المنصوري.

أجابها كمال، وهو رجل ذو بحة رجولية مميزة في صوته:

-اهلاً بيكي، معلش بقالي كتير غايب عن النادي ومعرفش اوي معظم الناس.

تدخلت صديقتها بحماس:

-روكا، كمال كان مسافر في الكويت هو جراح قلب شاطر تصدقي ممكن يكون عارف جوزك.

ثم التفتت إلى كمال قائلة بابتسامة:

-رقية جوزها يبقى الدكتور فارس الدمنهوري، مش هو كان بردو في الكويت…

لم تمهلها الفرصة لإكمال حديثها، إذ قاطعها كمال باندهاش واضح، وقد ارتسمت على وجهه علامات فرحة عارمة:

-مش معقول فارس الدمنهوري، ده انا قالب الدنيا عليه لما نزلت مصر ومش عارف اوصله، ده صاحب عمري.

اندهشت رقية من حماسته المفاجئة، لكنها ابتسمت قائلة:

-بجد؟ حضرتك تعرفه؟

-إلا أعرفه بقولك صاحب عمري، عشنا مع بعض احسن سنين عمرنا في الكويت واشتغلنا مع بعض كتير، لغاية ما هو قرر ينزل مصر، ومن وقتها ماعرفتش اوصله تقريبا غير رقم تليفونه، هو شغال في أنهي مستشفى، لازم اروحله.

ترددت للحظة، ثم اقترحت، محاولةً أن تستغل هذه الفرصة لإعادة المياه إلى مجاريها مع فارس:

-لا انت كده معزوم على العشا عندي النهاردة، فارس هيفرح جدًا اكيد لو شافك.

لم يرفض كمال العرض، بل رد بحماس:

-ده اكيد شيء يسعدني تمام موافق.

***

مساءً…

استقبلت رقية كمال في منزلها بترحاب شديد، وجلست معه في البهو الفسيح، يتبادلان أطراف الحديث بينما ينتظران فارس، خلال حديثهما، روت له بعض التغيرات التي طرأت على حياة فارس، كيف ترك مهنة الطب، التي كانت شغفه الأول، واتجه إلى العمل في إدارة شركات والدها الراحل.

أصغى كمال إليها باهتمام، ثم علق بإعجاب:

-فارس طول عمره جدع، ومفيش زيه.

رمقت رقية الساعة في قلق، ثم تمتمت:

-معلش لو اتأخر شوية، هو بقى يتأخر جدًا بسبب الشغل، بس اللي مستغرباله طنط ماهي والدته اتأخرت ليه؟!

ارتفعت عينا كمال نحوها في ارتباك، وتساءل بنبرة متشككة يتخللها عدم الفهم:

-والدته؟

-ايوه ماهي النعمان، حضرتك مشوفتهاش قبل كده؟؟

شعر كمال للحظة وكأن الكلمات تعثرت على لسانه، كأن شيئًا ثقيلًا جثم على صدره، فارس الدمنهوري، الجراح المعروف الذي عاش في الكويت سنوات طويلة، كان يتيم الأبوين! لم يكن له عائلة في مصر، سوى خالة واحدة مهاجرة منذ سنوات في النرويج!

إذن، من تكون هذه المرأة التي تدعي أنها والدته؟!

قبل أن يستطيع طرح أي سؤال، انطلق رنين هاتف رقية، فاستأذنت منه لتجيب، مبتعدة قليلًا، استغل كمال الفرصة، ونهض يتجول ببصره في المكان، وقعت عينه على صور متفرقة معلقة على الجدران، إحداها لفارس، فأقترب منها، ثم تراجع فجأة، وقد تجمدت ملامحه في صدمة.

الرجل في الصورة ليس فارس الدمنهوري الذي يعرفه!

شعر باضطراب شديد، وبدأ يبحث بجنون عن أي صورة أخرى يمكن أن تؤكد شكوكه. حينها، لمح خادمة تقترب منه بفضول، فتساءلت:

-خير يا بيه؟

حمحم كمال بخشونة، محاولًا السيطرة على اضطرابه، ثم سألها مباشرة:

-هو ده فارس الدمنهوري؟!

هزت الخادمة، نرمين، رأسها إيجابًا وهي تقول بثقة:

-اه يا بيه، في حاجة؟

ألقى كمال نظرة خاطفة حوله، يبحث عن رقية، فتابعت نرمين بجدية:

-ست رقية بتتكلم بس في التليفون، ثواني وهتجيلك.

لكن كمال لم ينتظر، أومأ برأسه سريعًا، ثم التفت وخرج من المنزل بخطوات متسارعة، وقد تملكه يقين واحد، هناك شيء خطير يحدث هنا… شيء يستدعي البحث قبل أن يبوح بأي كلمة!

خرجت رقية إلى البهو تبحث عنه، لكنها لم تجده،

تجولت بعينيها في الأرجاء، متعجبة من اختفائه المفاجئ، أين ذهب كمال بهذه السرعة؟! لم يكن هناك ما يستدعي مغادرته دون وداع، خاصة وهو بالكاد كان متحمسًا لرؤية فارس.

استدعت نرمين وسألتها، لكن الأخيرة هزت رأسها نفيًا، قائلة بعدم معرفة وجهته، ازدادت حيرتها، فسارعت بإجراء اتصال به، وما إن أجاب حتى سألته بلهفة:

-دكتور كمال حضرتك فين؟!

أتاها صوته متوترًا، يحمل نبرة غير طبيعية:

-معلش يا مدام رقية، في مشكلة حصلت بس عندي في البيت ولازم كنت امشي.

عقدت حاجبيها بقلق، لكنها تماسكت قائلة بلطف:

-امممم، مفيش أي مشكلة المهم أن المشكلة اللي عندك تعدي على خير، كويس إن أنا مقولتش لفارس حاجة، أصل كنت عمالهاله مفاجأة.

ضحك كمال ضحكة خافتة، وكأنه يحاول إخفاء توتره:

-حلو…حلو جدًا اوعي تقولي حاجة عني، اخلص بس المشكلة دي، ونظبط يوم نفاجئه بيه، أنا عايز اشوفه متفاجئ بيا.

-تمام، خلاص هستناك تتصل بيا، سلام.

أغلقت المكالمة، وأخذت تفكر في الأمر، ما الذي دفعه للرحيل بهذه السرعة؟ ورغم إحساسها الغريب تجاه تصرفه، تجاهلت الأمر وابتسمت، متحمسة لفكرة المفاجأة.

لكن، كيف ستحتفظ بالسر دون أن تثير فضول فارس؟! عليه ألا يكتشف شيئًا، حتى يحظى بهذه اللحظة السعيدة برؤية صديق عمره.

صعدت إلى غرفتها، وقررت أن تتجهز لاستقبال فارس، طلبت من نرمين تجهيز عشاءٍ رومانسي في الحديقة، حيث أرادت أن تعوض فارس عن كل المشاحنات التي حدثت بينهما، ارتدت فستانًا صيفيًا ناعمًا، يناسب أجواء الليلة الدافئة، وتركت شعرها ينسدل بحرية على كتفيها.

ما إن انتهت من استعدادها، حتى سمعت صوت سيارة فارس، فابتسمت بسعادة، متوقعة أن يسعد بالمفاجأة.

لكنه ما إن دخل الحديقة ورأى الأجواء المجهزة بعناية، حتى عقد حاجبيه ببرود، وقال بنبرة خالية من الحماس:

-هي دي المفاجأة اللي جايبني عشانها بسرعة؟

كانت نبرته الباردة كفيلة بتمزيق فرحتها، لكن رغم ذلك، احتفظت بابتسامتها، وردت بهدوء متألم:

-اه مش عجبتك؟؟

ظل فارس صامتًا لوهلة، لكن عندما وقعت عيناه على دموعها المتلألئة التي تأبى السقوط، شعر بتأنيب ضمير، وبذات الوقت لم يكن مستعدًا لهذه اللحظات الرومانسية بعد ما حدث بينهما، ومع ذلك لم يستطع رؤيتها هكذا، فتنهد واقترب منها ليحتضنها بحنان، هامسًا:

-لا طبعًا عجبتني، بس أنا كنت متضايق شوية منك معلش.

أحاطته بذراعيها في امتنان، وقالت بصوت خافت:

-متزعلش مني يا حبيبي، أول وأخر مرة أصدق حد تاني غيرك، واعتبر اللي حصل محصلش.

شعر فارس ببعض الراحة، وربت على ظهرها بلطف، قبل أن يهمس بنبرة أكثر صرامة:

-تمام، وابن عمك ده ماتشفيهوش تاني، لو كلمك قوليله أنا موافقة على الصفقة.

هزت رأسها إيجابًا، موافقة على طلبه دون اعتراض،

في تلك اللحظة، لم ينتبه كلاهما إلى وجود شخص آخر يراقبهما من بعيد، بعينين تضيقان بحقد دفين.

وقفت ماهي على بُعد مسافة منهما، تتابع ضحكاتهما، وعناقهما، والغضب يتأجج في داخلها.

قبضت على قبضتيها بانفعال، وأطلقت خطواتها الرنانة وهي تقترب منهما بثقة، حتى وقفت أمامهما تمامًا، قائلة بنبرة متعالية غلفها الضيق:

-فارس عايزاك حالاً في اوضتي.

انتفضت رقية قليلاً من وقع الأمر، ونظرت إلى فارس بتعجب هامسة:

-مالها مامتك!

رد فارس بارتباك، وهو يمرر يده على مؤخرة عنقه:

-معرفش، معلش يا حبيبتي هروح اشوفها.

راقبته رقية وهو يبتعد عنها، يتبع والدته التي تسير بخطوات متصلبة، ثم زفرت بإحباط، وهي تنظر إلى العشاء الذي أصبح باردًا بلا معنى بسبب تدخل والدته المتكرر.

لكنها لم تكن الوحيدة التي شعرت بخيبة الأمل،

نرمين، التي وقفت على مسافة غير بعيدة، تتابع المشهد بعينين دامعتين، واضعة يدها على فمها لكتم شهقة مكبوتة، شعرت وكأنها تحمل سرًا ثقيلًا لن يصدقها فيه أحد.

***

بعد مرور عدة أيام…

كان كمال ينتظر وصول رقية إلى النادي على أحر من الجمر، لم يهدأ له بال منذ لقائه بها، خاصة بعدما اكتشف أن الرجل الذي تعيش معه ليس صديقه فارس الدمنهوري الحقيقي، بل منتحل شخصيته!

بحث كمال في كل الاتجاهات، سأل في المستشفيات التي كان فارس يعمل بها، تواصل مع زملائه القدامى، بل وحتى سافر إلى المنصورة، حيث وُلد فارس وعاش قبل سفره إلى الكويت، ما وجده هناك زاد الأمر غموضًا…

الجيران أكدوا عودته إلى مصر واستقراره في منزله القديم لعدة أشهر، لكنه اختفى فجأة، لم يره أحد منذ ذلك الحين، كأنه تبخر من الوجود!

لكن أكثر ما أثار الريبة كان شهادة أحد الجيران، الذي قال إنه في آخر أيام ظهور فارس، كان هناك شاب غريب يتردد عليه كثيرًا، ويخبر الجميع أنه صديقه ويشاركه في مشروع تجاري كبير.

ثم فجأة، اختفى فارس، واختفى ذلك الشاب معه.

قطع تفكير كمال ظهور رقية، التي وصلت بوجه يكسوه القلق، وجلست أمامه بتوجس، قالت بنبرة متوترة:

-في إيه يا دكتور كمال، قلقتني بمكالمتك اوي، وكمان طلبك مني إن معرفش فارس قلقني وكمان….

لم يمنحها كمال فرصة للاسترسال، بل سألها بسرعة ولهفة:

-صورتي بطاقته؟!

زمت رقية شفتيها بقلق، وأغمضت عينيها لوهلة، قبل أن تقول بجدية:

-اه بس مش هوريهالك الا لما تقولي في إيه؟! وليه طلبت مني اصور بطاقته؟

-لو سمحتي وريهالي بس وهي على موبايلك وأنا اوعدك اقولك كل حاجة وحالاً.

نظرت إليه بتمعن، ثم تنهدت بعمق، قبل أن تخرج هاتفها من حقيبتها، وتضعه أمامه.

أخذ كمال الهاتف بيدين متوترة، وألقى نظرة سريعة على بيانات البطاقة، ثم أخرج هاتفه هو الآخر، وبدأ يُقلب بين ملفاته، حتى وجد صورة كان يبحث عنها، وعندما وقعت عيناه عليها، اتسعت حدقتاه بصدمة بالغة!

كانت كل البيانات متطابقة…الرقم القومي، الاسم الرباعي، تاريخ الميلاد، تاريخ إصدار البطاقة وانتهائها…كل شيء مطابق تمامًا…لكن هناك شيء واحد فقط كان مختلفًا….الصورة!

الصورة في بطاقة فارس التي يملكها كمال كانت لرجل آخر! شخص آخر تمامًا…رجل ليس زوج رقية!

وضع كمال هاتفه أمامها، وهو يقول بحدة:

-بصي في البطاقتين كده يا مدام رقية!

أخذت رقية الهاتفين، ونظرت إليهما في بادئ الأمر دون أن تستوعب… ثم فجأة، اتسعت عيناها عن آخرهما، وسقط الهاتف من يدها وهي تشهق بعنف!

-إيه ده ازاي؟؟

قال كمال بجمود وهو يراقب ردة فعلها:

-البطاقة دي عرفت اجيبها من معارفي في الكويت لما كنا أنا وفارس شغالين هناك، البطاقة مش بس الصور مختلفة يا مدام رقية، الرقم القومي واحد بس الفرق إن اللي هناك في الكويت دي الاصلية أما اللي انتي صورتيها دي المزورة.

رفعت عينيها إليه بذهول وتيه، وقالت بصوت مهتز:

-أنا مش فاهمة حاجة، انت عايز توصل لإيه؟

-إن جوزك ده مش فارس الدمنهوري جراح القلب اللي اشتغلت معاه سنين في الكويت وقعدنا مع بعض، فارس الاصلي يتيم الاب والام وامه مسمهاش ماهي النعمان ولا هي عايشة، فارس الدمنهوري مش جوزك، أنا لما شوفت صورته في البيت عندك مشيت وقلقت وحسيت إن أنا تايه بس قولت اتأكد وفعلا سافرت المنصورة وسألت عن صاحبي بس مالقتهوش، الغريب أن عربيته وكل حاجة موجودة ماعدا هو…هو اللي مش موجود.

رغم صدمتها، حاولت التمسك بأي منطق، فقالت بصوت مضطرب:

-يمكن يكون تشابه اسماء..

سكتت، تحاول استيعاب الكارثة التي تنكشف أمامها.

كمال ضغط على كفيه وهو يقول بجدية:

-الاسم الرباعي؟ الرقم القومي؟ نفس التاريخ اللي البطاقة طالعة فيه وتاريخ انتهائها؟ معقولة كل حاجة لدرجة دي متشابهة.

-والمفروض اصدقك واكدب جوزي؟

-لو حابة نسافر حالا الكويت وتسألي في المستشفى بتاعتنا وتتأكدي بنفسك، وكمان معلش جوزك هو شغال في انهي مستشفى؟

صمتت، ثم همست بتردد:

-مش في مستشفى، هو عنده عيادته!

كمال عقد حاجبيه في استغراب، وقال ببطء:

-فارس كان دكتور متمكن من شغله ومشهور والف مستشفى تتمناه معقول مش هيكون في أي مستشف عشان العمليات ده جراح..

بدأت رقية تتذكر، تتذكر أنه لم يذكر قط اسم مستشفى يعمل فيها، لم يجرِ أي عملية طارئة في منتصف الليل كما يفعل الجراحون، ولم يكن يغادر للعمل إلا إلى عيادته الخاصة فقط!

كل ما فعله منذ زواجهما هو العمل في شركتها… وكأن الطب لم يكن جزءًا من حياته من الأساس!

شعرت أن الهواء أصبح ثقيلاً، وأن قلبها يدق بعنف.

كمال تابع وهو يفتح هاتفه مرة أخرى، ويعرض عليها عدة صور:

-بصي دي صور دكتور فارس الدمنهوري كانت معايا على التليفون القديم، بصي وشوفي…

كانت هناك صور لرجل مختلف، طبيب يرتدي زي العمليات، يقف وسط زملائه، في مؤتمرات طبية، أمام مستشفى كويتية شهيرة…لكن لم يكن زوجها،

كان شخصًا آخر! رفعت رقية يدها المرتجفة إلى فمها، ثم نظرت إلى كمال بصدمة مطلقة.

كمال قال بحزم:

-أنا مش في مصلحتي اضحك عليكي، اسالي عليا وعلى عيلتي كويس، انا فرحت لما عرفت إن صاحبي موجود بعد ما الاتصالات اتقطعت فجأة بيني وبينه، بس كان لازم احذرك وفي نفس الوقت اعرف مين ده اللي منتحل شخصية صاحبي.

قالت بصوت متهدج من فرط صدمتها:

-منتحل؟

-ايوه، بصي انتي لو ليكي معارف واصلين في وزارة الداخلية تقدري تكشفي على البطاقات دي وتعرفي هي مزورة ولا لا…بس نصيحة ماتعرفيش الشخص اللي معاكي ده أي حاجة، وأنا معاكي في أي حاجة ولو تحبي اشهد كمان.

***

لم تجد رقية أمامها سوى آدم ابن عمها، لم تفكر كثيرًا، بل حملت حقيبتها وانطلقت إلى منزله مباشرة،

بمجرد أن رأته أمامها، انهارت تمامًا، وسقطت أرضًا فاقدة الوعي، والدموع لا تزال تبلل وجنتيها.

-رقية، رقية، مالك؟!

لم يتردد لحظة، بل انحنى وحملها بين ذراعيه، متجهًا بها إلى غرفة الضيوف، وقلبه يغلي من القلق،

أسرع بالاتصال بالطبيب، الذي حضر على الفور، وبعد فحصها فأخبره بتعرضها لصدمة عصبية، هز آدم رأسه، لكنه لم يكن قادرًا على إخماد نار القلق التي اشتعلت داخله.

بعد مرور بعض الوقت…

أفاقت رقية أخيرًا، فدخل آدم إلى الغرفة بحذر، وجلس بجوارها، ثم سألها بصوت يفيض قلقًا:

-مالك يا رقية؟ جوزك عملك حاجة؟ متخافيش احكي لي.

رفعت وجهها إليه، ثم انفجرت بالبكاء مجددًا، نحيبها كان مكتومًا لكنه موجع، لم يستطع سوى تهدئتها، يربت على كتفها بلطف، منتظرًا حتى تستطيع الكلام.

وبعد لحظات، بصوت متقطع، بالكاد يُسمع، نطقت بالحقيقة، كل شيء أخبرته عن فارس، عن الشكوك التي ساورتها، عن كلام كمال، عن الصورة في البطاقة، عن الارتباك الذي شعرت به طوال الوقت…ثم عن الصدمة الكبرى!

أن من يعيش معها… ليس فارس الدمنهوري!

تجمدت ملامح آدم، ارتفع صدره مع شهقة لم يستطع كبتها، ثم انتفض واقفًا بعنف، صوته خرج كطلقة:

-انتي بتقولي إيه؟ ومين الدكتور ده؟ واسمه إيه؟

نظرت إليه بعيون مذعورة، قبل أن تهمس بانكسار:

-آدم أنا جيتلك عشان فجأة حسيت إن ماليش غيرك، أنا حاسة بجد إن هيجرالي حاجة ومصدومة.

حبس أنفاسه، وهو يرى انهيارها التام، ثم اقترب منها، قائلًا بصوت أكثر ليونة:

-انتي معايا متخافيش.

قبل أن يفتح فمه بكلمة أخرى، انطلق صوت هاتفها فجأة، نظرت إلى شاشته ببطء، ثم انقبض قلبها عندما رأت المرسل، “نرمين!” وبدون تفكير، فتحت الرسائل، وكانت الصدمة!

“ست رقية، أنا مش قادرة أسكت أكتر من كده عن القرف اللي بيحصل من ورا ضهرك، بين فارس بيه وأمه.”

اتسعت عيناها، جف حلقها، وانخفضت أنظارها تلقائيًا إلى الصور المرفقة…لتتوقف أنفاسها! صور… لمواقف لا تقبل الشك! لحظات حميمية خالصة… بين فارس و…أمه!!!

شهقت بعنف، اهتز الهاتف في يدها، شعرت بالأرض تدور بها، ثم…سقطت فاقدة الوعي مرة أخرى!

انتفض آدم في مكانه، اقترب بسرعة، أمسك الهاتف، ثم تجمدت عيناه على الصور، التقط أنفاسه بصعوبة، مصدومًا إلى أقصى درجة، لكنه لم يستطع التفكير في أي شيء الآن، كل ما يهمه هو رقية!

حاول إفاقتها دون جدوى، فحملها بسرعة، وقاد سيارته بأقصى سرعة إلى أقرب مشفى.

****

بعد مرور عدة أيام…

استعادت رقية وعيها أخيرًا، بعد أن بقيت تحت تأثير المهدئات لفترة طويلة، لم تكن تعي ما يحدث حولها.

لكن اليوم، بعد أن استعادت جزءًا من قوتها، طلبت رؤية آدم فورًا.

دخل إليها بابتسامة هادئة، محاولًا طمأنتها:

-حمد لله على سلامتك.

همست بصوت خافت ومرهق:

-عملت إيه وإيه اللي حصل؟ أنا عرفت إن بقالي كتير  غايبة!

نظر إليها بحذر، ثم قال بنبرة حازمة:

-الدكتور محذرني ماقولش أي حاجة تضايقك، لما تبقي كويسة صدقيني هحكيلك، بس اتأكدي ان ابن عمك اخدلك حقك تالت ومتلت.

-آدم عشان خاطري قولي، أنا كده هرتاح أكتر.

أطلق زفرة ثقيلة، ثم قال ببطء:

-طالما انتي مصرة، يبقى توعديني ماتنهاريش احنا عايزينك.

-اوعدك.

ظل يحدق فيها للحظات، قبل أن ينطق أخيرًا بالحقيقة الصادمة:

-مفيش طلع فعلا منتحل شخصية دكتور اسمه فارس الدمنهوري جراح قلب اصله من المنصورة وجوزك…اقصد الزفت ده اسمه حسام ونصاب وكان صاحب فارس الدمنهوري واقنعه ينزل من الكويت ويشاركه في مشروع والزفت لهف فلوس صاحبه كلها ولما فارس اكتشف انه نصاب، قتله في شقة….

شهقت رقية بصدمة، فسارع آدم بتذكيرها:

-انتي وعدتيني…

-خلاص كمل.

-قتله ودفنه في أرضية الشقة، واخد كل متعلقاته وحاجاته وبطاقته وزور البطاقة الاصلية وعاش بحياة فارس الدمنهوري واتجوزك وماهي…

وضعت يدها على فمها، ثم قالت بصدمة:

-امه؟!

أغمض عينيه للحظة قبل أن يقول بصوت مرير:

-لا مراته في السر وشريكته في النصب وكان ضاربلها اوراق مزورة بردو، واشتغلونا ولاد الـ **** وبلعنا الطعم.

شهقت بذهول، لكنها تذكرت… تذكرت كل مرة بات عندها، كل مرة ذهب إليها، كل مرة أحست أن هناك سرًا قذرًا يختبئ خلف الستار.

-مراته؟! يعني لما كان بينام عندها كان بيبقى عنده مراته مش امه، ولما جابها عندي….

غطت وجهها بيديها، عاجزة عن استيعاب المصيبة.

-كويس اصلا إن نرمين قررت تقول وماتسكتش، وكويس إنها صورت الصور دي، دي أكبر منه ب ١٧ سنة، المهم هما الاتنين في السجن وبالمناسبة هما الاتنين اللي قتلوا فارس مش هو بس، بس اتوجهت ليهم قضايا نصب وتزوير غير القتل العمد لفارس الدمنهوري، انتي ربنا بيحبك يا رقية إن ربنا كشفلك كل حاجة قبل ما الاستاذ كان يبيع مصنع اسكندرية ويمضي على الصفقة اللي كانت هتودينا في ستين داهية، وبالمناسبة أنا لغيت التوكيل، وخليته يطلقك، يعني انتي حرة.

نظر آدم إلى رقية، فرأى في عينيها مزيجًا من الألم والندم والامتنان، وكأنها تود أن تنطق بمئة كلمة دفعة واحدة، لكنها لم تجد سوى همسة مختنقة خرجت من بين شفتيها المرتعشتين:

-آدم آنا….أنا…

قاطعها بلطف، محاولًا تهدئتها قبل أن تغرق في دوامة المشاعر:

-ماتقوليش أي حاجة، بس لما عمي كان بيحذرك من القريب مكنش يقصدني أنا يا رقية،

تجمدت نظراتها عليه، وكأنها تحاول استيعاب كلماته، أكمل بصوت هادئ لكنه يحمل مرارة السنين:

-كنتي فكرتي كنت هتعرفي إن هو يقصده هو، الله يرحمه مكنش بيحبه بس مكنش عايز يكسر بخاطرك، وبعدين لو كان يقصدني او يقصد جوز عمتك مكنش سمح لينا نبقى شراكائه كان قطع وجودنا من حياته صح ولا لا؟

حدقت فيه طويلًا، وكأن عقارب الزمن تعود بها إلى الوراء، تذكرت كلمات والدها، نظرته الحادة كلما ذكر اسم “فارس”، صمته حينما كانت تدافع عنه، كل الإشارات التي لم تفهمها وقتها.

أغمضت عينيها للحظة، ثم همست بندم صادق:

-صح عندك حق، أنا معرفتش افكر صح ولا عرفت افهم قصد بابا، أنا أسفة يا آدم.

ابتسم ابتسامة دافئة، وربت على كفها قائلاً بحنوّ:

-الحمد لله، يلا شدي حيلك عشان تشوفي شغلك.

نظرت إليه باستغراب:

-شغلي؟

اعتدل في جلسته، وعاد صوته إلى نبرته الجادة الحازمة:

-اه طبعًا والمرة دي مفيش توكيل لحد، ولازم تنزلي بنفسك تتابعي الشغل وأنا هعلمك أنا والبشمهندس يوسف.

ظلت تحدق فيه، تحاول أن تستوعب التحول الذي حدث في حياتها، منذ أيام قليلة كانت مجرد زوجة تعيش في وهم، والآن أصبحت امرأة عليها أن تتحمل مسؤولية إرث أبيها، وتصمد أمام الحياة بقوة جديدة.

امتلأت عيناها بالدموع، لكنها لم تكن دموع ضعف هذه المرة، بل دموع امتنان وعزم.

-شكرًا يا آدم شكرًا بجد من غيرك مكنتش هعرف اعمل ده كله.

ابتسم آدم، ثم قال بحنان:

-أنا ماعملتش حاجة ده واجبي، يلا استعدي عشان حياتك الحقيقية هتبدأ دلوقتي.

تمت بحمد لله.

ما رأته أمامها كان كفيلًا بأن يشل حركتها، وكأن صاعقة ضربتها في موضعها. فارس، نصفه العلوي عارٍ تمامًا، يجلس في استرخاء تام، بينما تقف ماهي خلفه، تدلك كتفيه وظهره ببطء وابتسامة واسعة تمتد على شفتيها، لم يكن المشهد مجرد عناية أم بابنها المرهق، بل كان يحمل بين تفاصيله شيئًا أكثر خبثًا… وأكثر خطورة. شعرت نرمين بأنفاسها تتلاحق، لكنها لم تكن مستعدة لما حدث بعدها؛ حينما انحنت ماهي نحو فارس، وطبعت قبلة طويلة على عنقه، قبل أن تزحف بشفتيها نحو وجهه، ليقابلها هو بالمثل بحميمية واضحة! عقدت نرمين كفيها فوق فمها، تكتم شهقة رعب كادت تفلت منها، وارتدت خطوة إلى الخلف بعنف، كأنها تحاول الهروب من المشهد المريع الذي انطبع في ذاكرتها إلى الأبد، تسارعت دقات قلبها بجنون، وتدفقت عبارات الذعر من بين شفتيها المرتعشتين: -استغفر الله العظيم… استغفر الله العظيم… يا لهوي! هو و…أمه؟! إزاي؟! إزاي؟! يا ليلة سودا! يا حبيبتي يا ست رقية، على الهم اللي إنتي فيه! أدارت جسدها بسرعة، تحمل الصندوق بين يديها كمن يحمل ثقلًا لا يُطاق، وتقدمت في خطوات متعثرة نحو غرفة رقية، كافحت لتتماسك، لكنها فشلت، فقد بدا توترها جليًا وهي تطرق الباب بيد مرتعشة. فتحت رقية الباب، وعيناها متورمتان من البكاء، لكنها لم تنتبه إلى حالة نرمين المتوترة، بل التقطت منها الصندوق وأغلقت الباب مرة أخرى دون أن تنبس بكلمة. وقفت نرمين مكانها للحظات، مترددة بين طرق الباب مجددًا أو الرحيل، عقلها يعصف بأفكار متضاربة؛ هل تخبرها بالحقيقة الآن؟ أم أن وقع الصدمة سيكون مدمرًا عليها؟ وماذا لو لم تصدقها؟ فهي في النهاية خادمة، بينما فارس هو زوجها وحبها الأول، والرجل الذي طالما وضعت ثقتها فيه. زفرت بعمق، ثم قررت الصمت،
على الأقل حتى يحين الوقت المناسب، استدارت لتغادر، لكن عقلها ظل مثقلًا بذلك السر القذر الذي اكتشفته…وبالسؤال الذي لم تجد له إجابة، هل سيأتي اليوم الذي ترى فيه رقية الحقيقة؟ أم أن الحب سيبقى ستارًا يحجب عنها كل شيء؟! *** في اليوم التالي… جلست رقية وسط صديقاتها في النادي، لكن عقلها كان شاردًا في مكان آخر، غارقًا في دوامة من الأفكار المتشابكة، تبحث عن حل يعيد التوازن إلى حياتها بعدما تزعزعت علاقتها مع فارس. منذ الصباح، أبلغها بقراره الحاسم، التخلي عن العمل معها نهائيًا، مؤكدًا أنه لا يتشرف بالاستمرار في شركة لا تثق به مالكتها. حاولت كثيرًا استرضاءه، ولكن دون جدوى، فقد غادر غاضبًا، مصممًا على موقفه، ولم يكن الأمر مقتصرًا عليه وحده، بل حتى ماهي، التي ألقت عليها اللوم بالكامل، متبرئة من التدخل في الأمر، لا تزال كلماتها الجارحة ترن في أذنها. “-حبيبتي سوري يعني انتي كنتي غبية اوي وانتي بتتعاملي مع جوزك، وبعدين انتي شكيتي فيه وواثقة في اهلك اللي يا ما بابكي حذرك منهم!!” قطع شرودها يدٌ تربت على كتفها برفق، وصوت صديقتها يقول بابتسامة: -روكا، سلمي على دكتور كمال عزام صديقي وصديق العيلة. رفعت رقية رأسها، ومدت يدها لتصافح الرجل بلباقة، قائلة بابتسامة بسيطة: -اهلاً يا دكتور، أنا رقية المنصوري. أجابها كمال، وهو رجل ذو بحة رجولية مميزة في صوته: -اهلاً بيكي، معلش بقالي كتير غايب عن النادي ومعرفش اوي معظم الناس. تدخلت صديقتها بحماس: -روكا، كمال كان مسافر في الكويت هو جراح قلب شاطر تصدقي ممكن يكون عارف جوزك. ثم التفتت إلى كمال قائلة بابتسامة: -رقية جوزها يبقى الدكتور فارس الدمنهوري، مش هو كان بردو في الكويت… لم تمهلها الفرصة لإكمال حديثها، إذ قاطعها كمال باندهاش واضح، وقد ارتسمت على وجهه علامات
فرحة عارمة: -مش معقول فارس الدمنهوري، ده انا قالب الدنيا عليه لما نزلت مصر ومش عارف اوصله، ده صاحب عمري. اندهشت رقية من حماسته المفاجئة، لكنها ابتسمت قائلة: -بجد؟ حضرتك تعرفه؟ -إلا أعرفه بقولك صاحب عمري، عشنا مع بعض احسن سنين عمرنا في الكويت واشتغلنا مع بعض كتير، لغاية ما هو قرر ينزل مصر، ومن وقتها ماعرفتش اوصله تقريبا غير رقم تليفونه، هو شغال في أنهي مستشفى، لازم اروحله. ترددت للحظة، ثم اقترحت، محاولةً أن تستغل هذه الفرصة لإعادة المياه إلى مجاريها مع فارس: -لا انت كده معزوم على العشا عندي النهاردة، فارس هيفرح جدًا اكيد لو شافك. لم يرفض كمال العرض، بل رد بحماس: -ده اكيد شيء يسعدني تمام موافق. *** مساءً… استقبلت رقية كمال في منزلها بترحاب شديد، وجلست معه في البهو الفسيح، يتبادلان أطراف الحديث بينما ينتظران فارس، خلال حديثهما، روت له بعض التغيرات التي طرأت على حياة فارس، كيف ترك مهنة الطب، التي كانت شغفه الأول، واتجه إلى العمل في إدارة شركات والدها الراحل. أصغى كمال إليها باهتمام، ثم علق بإعجاب: -فارس طول عمره جدع، ومفيش زيه. رمقت رقية الساعة في قلق، ثم تمتمت: -معلش لو اتأخر شوية، هو بقى يتأخر جدًا بسبب الشغل، بس اللي مستغرباله طنط ماهي والدته اتأخرت ليه؟! ارتفعت عينا كمال نحوها في ارتباك، وتساءل بنبرة متشككة يتخللها عدم الفهم: -والدته؟ -ايوه ماهي النعمان، حضرتك مشوفتهاش قبل كده؟؟ شعر كمال للحظة وكأن الكلمات تعثرت على لسانه، كأن شيئًا ثقيلًا جثم على صدره، فارس الدمنهوري، الجراح المعروف الذي عاش في الكويت سنوات طويلة، كان يتيم الأبوين! لم يكن له عائلة في مصر، سوى خالة واحدة مهاجرة منذ سنوات في النرويج! إذن، من تكون هذه المرأة التي تدعي أنها والدته؟! قبل أن يستطيع طرح أي سؤال، انطلق رنين هاتف رقية، فاستأذنت منه لتجيب، مبتعدة قليلًا، استغل كمال الفرصة، ونهض يتجول ببصره في المكان، وقعت عينه على صور متفرقة معلقة على الجدران، إحداها لفارس، فأقترب منها، ثم تراجع فجأة، وقد تجمدت ملامحه في صدمة. الرجل في الصورة ليس فارس الدمنهوري الذي يعرفه! شعر باضطراب شديد، وبدأ يبحث بجنون عن أي صورة أخرى يمكن أن تؤكد شكوكه. حينها، لمح خادمة تقترب منه بفضول، فتساءلت: -خير يا بيه؟ حمحم كمال بخشونة، محاولًا السيطرة على اضطرابه، ثم سألها مباشرة: -هو ده فارس الدمنهوري؟! هزت الخادمة، نرمين، رأسها إيجابًا وهي تقول بثقة: -اه يا بيه، في حاجة؟ ألقى كمال نظرة خاطفة حوله، يبحث عن رقية، فتابعت نرمين بجدية: -ست رقية بتتكلم بس في التليفون، ثواني وهتجيلك. لكن كمال لم ينتظر، أومأ برأسه سريعًا، ثم التفت وخرج من المنزل بخطوات متسارعة، وقد تملكه يقين واحد، هناك شيء خطير يحدث هنا… شيء يستدعي البحث قبل أن يبوح بأي كلمة! خرجت رقية إلى البهو تبحث عنه، لكنها لم تجده، تجولت بعينيها في الأرجاء، متعجبة من اختفائه المفاجئ، أين ذهب كمال بهذه السرعة؟! لم يكن هناك ما يستدعي مغادرته دون وداع، خاصة وهو بالكاد كان متحمسًا لرؤية فارس. استدعت نرمين وسألتها، لكن الأخيرة هزت رأسها نفيًا، قائلة بعدم معرفة وجهته، ازدادت حيرتها، فسارعت بإجراء اتصال به، وما إن أجاب حتى سألته بلهفة: -دكتور كمال حضرتك فين؟! أتاها صوته متوترًا، يحمل نبرة غير طبيعية: -معلش يا مدام رقية، في مشكلة حصلت بس عندي في البيت ولازم كنت امشي. عقدت حاجبيها بقلق، لكنها تماسكت قائلة بلطف: -امممم، مفيش أي مشكلة المهم أن المشكلة اللي عندك تعدي على خير، كويس إن أنا مقولتش لفارس حاجة، أصل كنت عمالهاله مفاجأة. ضحك كمال ضحكة خافتة، وكأنه يحاول إخفاء توتره: -حلو…حلو جدًا اوعي تقولي حاجة عني، اخلص بس المشكلة دي، ونظبط يوم نفاجئه بيه، أنا عايز اشوفه متفاجئ بيا. -تمام، خلاص هستناك تتصل بيا، سلام. أغلقت المكالمة، وأخذت تفكر في الأمر، ما الذي دفعه للرحيل بهذه السرعة؟ ورغم إحساسها الغريب تجاه تصرفه، تجاهلت الأمر وابتسمت، متحمسة لفكرة المفاجأة. لكن، كيف ستحتفظ بالسر دون أن تثير فضول فارس؟! عليه ألا يكتشف شيئًا، حتى يحظى بهذه اللحظة السعيدة برؤية صديق عمره. صعدت إلى غرفتها، وقررت أن تتجهز لاستقبال فارس، طلبت من نرمين تجهيز عشاءٍ رومانسي في الحديقة، حيث أرادت أن تعوض فارس عن كل المشاحنات التي حدثت بينهما، ارتدت فستانًا صيفيًا ناعمًا، يناسب أجواء الليلة الدافئة، وتركت شعرها ينسدل بحرية على كتفيها. ما إن انتهت من استعدادها، حتى سمعت صوت سيارة فارس، فابتسمت بسعادة، متوقعة أن يسعد بالمفاجأة. لكنه ما إن دخل الحديقة ورأى الأجواء المجهزة بعناية، حتى عقد حاجبيه ببرود، وقال بنبرة خالية من الحماس: -هي دي المفاجأة اللي جايبني عشانها بسرعة؟ كانت نبرته الباردة كفيلة بتمزيق فرحتها، لكن رغم ذلك، احتفظت بابتسامتها، وردت بهدوء متألم: -اه مش عجبتك؟؟ ظل فارس صامتًا لوهلة، لكن عندما وقعت عيناه على دموعها المتلألئة التي تأبى السقوط، شعر بتأنيب ضمير، وبذات الوقت لم يكن مستعدًا لهذه اللحظات الرومانسية بعد ما حدث بينهما، ومع ذلك لم يستطع رؤيتها هكذا، فتنهد واقترب منها ليحتضنها بحنان، هامسًا: -لا طبعًا عجبتني، بس أنا كنت متضايق شوية منك معلش. أحاطته بذراعيها في امتنان، وقالت بصوت خافت: -متزعلش مني يا حبيبي، أول وأخر مرة أصدق حد تاني غيرك، واعتبر اللي حصل محصلش. شعر فارس ببعض الراحة، وربت على ظهرها بلطف، قبل أن يهمس بنبرة أكثر صرامة: -تمام، وابن عمك ده ماتشفيهوش تاني، لو كلمك قوليله أنا موافقة على الصفقة. هزت رأسها إيجابًا، موافقة على طلبه دون اعتراض، في تلك اللحظة، لم ينتبه كلاهما إلى وجود شخص آخر يراقبهما من بعيد، بعينين تضيقان بحقد دفين. وقفت ماهي على بُعد مسافة منهما، تتابع ضحكاتهما، وعناقهما، والغضب يتأجج في داخلها. قبضت على قبضتيها بانفعال، وأطلقت خطواتها الرنانة وهي تقترب منهما بثقة، حتى وقفت أمامهما تمامًا، قائلة بنبرة متعالية غلفها الضيق: -فارس عايزاك حالاً في اوضتي. انتفضت رقية قليلاً من وقع الأمر، ونظرت إلى فارس بتعجب هامسة: -مالها مامتك! رد فارس بارتباك، وهو يمرر يده على مؤخرة عنقه: -معرفش، معلش يا حبيبتي هروح اشوفها. راقبته رقية وهو يبتعد عنها، يتبع والدته التي تسير بخطوات متصلبة، ثم زفرت بإحباط، وهي تنظر إلى العشاء الذي أصبح باردًا بلا معنى بسبب تدخل والدته المتكرر. لكنها لم تكن الوحيدة التي شعرت بخيبة الأمل، نرمين، التي وقفت على مسافة غير بعيدة، تتابع المشهد بعينين دامعتين، واضعة يدها على فمها لكتم شهقة مكبوتة، شعرت وكأنها تحمل سرًا ثقيلًا لن يصدقها فيه أحد. *** بعد مرور عدة أيام… كان كمال ينتظر وصول رقية إلى النادي على أحر من الجمر، لم يهدأ له بال منذ لقائه بها، خاصة بعدما اكتشف أن الرجل الذي تعيش معه ليس صديقه فارس الدمنهوري الحقيقي، بل منتحل شخصيته! بحث كمال في كل الاتجاهات، سأل في المستشفيات التي كان فارس يعمل بها، تواصل مع زملائه القدامى، بل وحتى سافر إلى المنصورة، حيث وُلد فارس وعاش قبل سفره إلى الكويت، ما وجده هناك زاد الأمر غموضًا… الجيران أكدوا عودته إلى مصر واستقراره في منزله القديم لعدة أشهر، لكنه اختفى فجأة، لم يره أحد منذ ذلك الحين، كأنه تبخر من الوجود! لكن أكثر ما أثار الريبة كان شهادة أحد الجيران، الذي قال إنه في آخر أيام ظهور فارس، كان هناك شاب غريب يتردد عليه كثيرًا، ويخبر الجميع أنه صديقه ويشاركه في مشروع تجاري كبير. ثم فجأة، اختفى فارس، واختفى ذلك الشاب معه. قطع تفكير كمال ظهور رقية، التي وصلت بوجه يكسوه القلق، وجلست أمامه بتوجس، قالت بنبرة متوترة: -في إيه يا دكتور كمال، قلقتني بمكالمتك اوي، وكمان طلبك مني إن معرفش فارس قلقني وكمان…. لم يمنحها كمال فرصة للاسترسال، بل سألها بسرعة ولهفة: -صورتي بطاقته؟! زمت رقية شفتيها بقلق، وأغمضت عينيها لوهلة، قبل أن تقول بجدية: -اه بس مش هوريهالك الا لما تقولي في إيه؟! وليه طلبت مني اصور بطاقته؟ -لو سمحتي وريهالي بس وهي على موبايلك وأنا اوعدك اقولك كل حاجة وحالاً. نظرت إليه بتمعن، ثم تنهدت بعمق، قبل أن تخرج هاتفها من حقيبتها، وتضعه أمامه. أخذ كمال الهاتف بيدين متوترة، وألقى نظرة سريعة على بيانات البطاقة، ثم أخرج هاتفه هو الآخر، وبدأ يُقلب بين ملفاته، حتى وجد صورة كان يبحث عنها، وعندما وقعت عيناه عليها، اتسعت حدقتاه بصدمة بالغة! كانت كل البيانات متطابقة…الرقم القومي، الاسم الرباعي، تاريخ الميلاد، تاريخ إصدار البطاقة وانتهائها…كل شيء مطابق تمامًا…لكن هناك شيء واحد فقط كان مختلفًا….الصورة! الصورة في بطاقة فارس التي يملكها كمال كانت لرجل آخر! شخص آخر تمامًا…رجل ليس زوج رقية! وضع كمال هاتفه أمامها، وهو يقول بحدة: -بصي في البطاقتين كده يا مدام رقية! أخذت رقية الهاتفين، ونظرت إليهما في بادئ الأمر دون أن تستوعب… ثم فجأة، اتسعت عيناها عن آخرهما، وسقط الهاتف من يدها وهي تشهق بعنف! -إيه ده ازاي؟؟ قال كمال بجمود وهو يراقب ردة فعلها: -البطاقة دي عرفت اجيبها من معارفي في الكويت لما كنا أنا وفارس شغالين هناك، البطاقة مش بس الصور مختلفة يا مدام رقية، الرقم القومي واحد بس الفرق إن اللي هناك في الكويت دي الاصلية أما اللي انتي صورتيها دي المزورة. رفعت عينيها إليه بذهول وتيه، وقالت بصوت مهتز: -أنا مش فاهمة حاجة، انت عايز توصل لإيه؟ -إن جوزك ده مش فارس الدمنهوري جراح القلب اللي اشتغلت معاه سنين في الكويت وقعدنا مع بعض، فارس الاصلي يتيم الاب والام وامه مسمهاش ماهي النعمان ولا هي عايشة، فارس الدمنهوري مش جوزك، أنا لما شوفت صورته في البيت عندك مشيت وقلقت وحسيت إن أنا تايه بس قولت اتأكد وفعلا سافرت المنصورة وسألت عن صاحبي بس مالقتهوش، الغريب أن عربيته وكل حاجة موجودة ماعدا هو…هو اللي مش موجود. رغم صدمتها، حاولت التمسك بأي منطق، فقالت بصوت مضطرب: -يمكن يكون تشابه اسماء.. سكتت، تحاول استيعاب الكارثة التي تنكشف أمامها. كمال ضغط على كفيه وهو يقول بجدية: -الاسم الرباعي؟ الرقم القومي؟ نفس التاريخ اللي البطاقة طالعة فيه وتاريخ انتهائها؟ معقولة كل حاجة لدرجة دي متشابهة. -والمفروض اصدقك واكدب جوزي؟ -لو حابة نسافر حالا الكويت وتسألي في المستشفى بتاعتنا وتتأكدي بنفسك، وكمان معلش جوزك هو شغال في انهي مستشفى؟ صمتت، ثم همست بتردد: -مش في مستشفى، هو عنده عيادته! كمال عقد حاجبيه في استغراب، وقال ببطء: -فارس كان دكتور متمكن من شغله ومشهور والف مستشفى تتمناه معقول مش هيكون في أي مستشف عشان العمليات ده جراح.. بدأت رقية تتذكر، تتذكر أنه لم يذكر قط اسم مستشفى يعمل فيها، لم يجرِ أي عملية طارئة في منتصف الليل كما يفعل الجراحون، ولم يكن يغادر للعمل إلا إلى عيادته الخاصة فقط! كل ما فعله منذ زواجهما هو العمل في شركتها… وكأن الطب لم يكن جزءًا من حياته من الأساس! شعرت أن الهواء أصبح ثقيلاً، وأن قلبها يدق بعنف. كمال تابع وهو يفتح هاتفه مرة أخرى، ويعرض عليها عدة صور: -بصي دي صور دكتور فارس الدمنهوري كانت معايا على التليفون القديم، بصي وشوفي… كانت هناك صور لرجل مختلف، طبيب يرتدي زي العمليات، يقف وسط زملائه، في مؤتمرات طبية، أمام مستشفى كويتية شهيرة…لكن لم يكن زوجها، كان شخصًا آخر! رفعت رقية يدها المرتجفة إلى فمها، ثم نظرت إلى كمال بصدمة مطلقة. كمال قال بحزم: -أنا مش في مصلحتي اضحك عليكي، اسالي عليا وعلى عيلتي كويس، انا فرحت لما عرفت إن صاحبي موجود بعد ما الاتصالات اتقطعت فجأة بيني وبينه، بس كان لازم احذرك وفي نفس الوقت اعرف مين ده اللي منتحل شخصية صاحبي. قالت بصوت متهدج من فرط صدمتها: -منتحل؟ -ايوه، بصي انتي لو ليكي معارف واصلين في وزارة الداخلية تقدري تكشفي على البطاقات دي وتعرفي هي مزورة ولا لا…بس نصيحة ماتعرفيش الشخص اللي معاكي ده أي حاجة، وأنا معاكي في أي حاجة ولو تحبي اشهد كمان. *** لم تجد رقية أمامها سوى آدم ابن عمها، لم تفكر كثيرًا، بل حملت حقيبتها وانطلقت إلى منزله مباشرة، بمجرد أن رأته أمامها، انهارت تمامًا، وسقطت أرضًا فاقدة الوعي، والدموع لا تزال تبلل وجنتيها. -رقية، رقية، مالك؟! لم يتردد لحظة، بل انحنى وحملها بين ذراعيه، متجهًا بها إلى غرفة الضيوف، وقلبه يغلي من القلق، أسرع بالاتصال بالطبيب، الذي حضر على الفور، وبعد فحصها فأخبره بتعرضها لصدمة عصبية، هز آدم رأسه، لكنه لم يكن قادرًا على إخماد نار القلق التي اشتعلت داخله. بعد مرور بعض الوقت… أفاقت رقية أخيرًا، فدخل آدم إلى الغرفة بحذر، وجلس بجوارها، ثم سألها بصوت يفيض قلقًا: -مالك يا رقية؟ جوزك عملك حاجة؟ متخافيش احكي لي. رفعت وجهها إليه، ثم انفجرت بالبكاء مجددًا، نحيبها كان مكتومًا لكنه موجع، لم يستطع سوى تهدئتها، يربت على كتفها بلطف، منتظرًا حتى تستطيع الكلام. وبعد لحظات، بصوت متقطع، بالكاد يُسمع، نطقت بالحقيقة، كل شيء أخبرته عن فارس، عن الشكوك التي ساورتها، عن كلام كمال، عن الصورة في البطاقة، عن الارتباك الذي شعرت به طوال الوقت…ثم عن الصدمة الكبرى! أن من يعيش معها… ليس فارس الدمنهوري! تجمدت ملامح آدم، ارتفع صدره مع شهقة لم يستطع كبتها، ثم انتفض واقفًا بعنف، صوته خرج كطلقة: -انتي بتقولي إيه؟ ومين الدكتور ده؟ واسمه إيه؟ نظرت إليه بعيون مذعورة، قبل أن تهمس بانكسار: -آدم أنا جيتلك عشان فجأة حسيت إن ماليش غيرك، أنا حاسة بجد إن هيجرالي حاجة ومصدومة. حبس أنفاسه، وهو يرى انهيارها التام، ثم اقترب منها، قائلًا بصوت أكثر ليونة: -انتي معايا متخافيش. قبل أن يفتح فمه بكلمة أخرى، انطلق صوت هاتفها فجأة، نظرت إلى شاشته ببطء، ثم انقبض قلبها عندما رأت المرسل، “نرمين!” وبدون تفكير، فتحت الرسائل، وكانت الصدمة! “ست رقية، أنا مش قادرة أسكت أكتر من كده عن القرف اللي بيحصل من ورا ضهرك، بين فارس بيه وأمه.” اتسعت عيناها، جف حلقها، وانخفضت أنظارها تلقائيًا إلى الصور المرفقة…لتتوقف أنفاسها! صور… لمواقف لا تقبل الشك! لحظات حميمية خالصة… بين فارس و…أمه!!! شهقت بعنف، اهتز الهاتف في يدها، شعرت بالأرض تدور بها، ثم…سقطت فاقدة الوعي مرة أخرى! انتفض آدم في مكانه، اقترب بسرعة، أمسك الهاتف، ثم تجمدت عيناه على الصور، التقط أنفاسه بصعوبة، مصدومًا إلى أقصى درجة، لكنه لم يستطع التفكير في أي شيء الآن، كل ما يهمه هو رقية! حاول إفاقتها دون جدوى، فحملها بسرعة، وقاد سيارته بأقصى سرعة إلى أقرب مشفى. **** بعد مرور عدة أيام… استعادت رقية وعيها أخيرًا، بعد أن بقيت تحت تأثير المهدئات لفترة طويلة، لم تكن تعي ما يحدث حولها. لكن اليوم، بعد أن استعادت جزءًا من قوتها، طلبت رؤية آدم فورًا. دخل إليها بابتسامة هادئة، محاولًا طمأنتها: -حمد لله على سلامتك. همست بصوت خافت ومرهق: -عملت إيه وإيه اللي حصل؟ أنا عرفت إن بقالي كتير  غايبة! نظر إليها بحذر، ثم قال بنبرة حازمة: -الدكتور محذرني ماقولش أي حاجة تضايقك، لما تبقي كويسة صدقيني هحكيلك، بس اتأكدي ان ابن عمك اخدلك حقك تالت ومتلت. -آدم عشان خاطري قولي، أنا كده هرتاح أكتر. أطلق زفرة ثقيلة، ثم قال ببطء: -طالما انتي مصرة، يبقى توعديني ماتنهاريش احنا عايزينك. -اوعدك. ظل يحدق فيها للحظات، قبل أن ينطق أخيرًا بالحقيقة الصادمة: -مفيش طلع فعلا منتحل شخصية دكتور اسمه فارس الدمنهوري جراح قلب اصله من المنصورة وجوزك…اقصد الزفت ده اسمه حسام ونصاب وكان صاحب فارس الدمنهوري واقنعه ينزل من الكويت ويشاركه في مشروع والزفت لهف فلوس صاحبه كلها ولما فارس اكتشف انه نصاب، قتله في شقة…. شهقت رقية بصدمة، فسارع آدم بتذكيرها: -انتي وعدتيني… -خلاص كمل. -قتله ودفنه في أرضية الشقة، واخد كل متعلقاته وحاجاته وبطاقته وزور البطاقة الاصلية وعاش بحياة فارس الدمنهوري واتجوزك وماهي… وضعت يدها على فمها، ثم قالت بصدمة: -امه؟! أغمض عينيه للحظة قبل أن يقول بصوت مرير: -لا مراته في السر وشريكته في النصب وكان ضاربلها اوراق مزورة بردو، واشتغلونا ولاد الـ **** وبلعنا الطعم. شهقت بذهول، لكنها تذكرت… تذكرت كل مرة بات عندها، كل مرة ذهب إليها، كل مرة أحست أن هناك سرًا قذرًا يختبئ خلف الستار. -مراته؟! يعني لما كان بينام عندها كان بيبقى عنده مراته مش امه، ولما جابها عندي…. غطت وجهها بيديها، عاجزة عن استيعاب المصيبة. -كويس اصلا إن نرمين قررت تقول وماتسكتش، وكويس إنها صورت الصور دي، دي أكبر منه ب ١٧ سنة، المهم هما الاتنين في السجن وبالمناسبة هما الاتنين اللي قتلوا فارس مش هو بس، بس اتوجهت ليهم قضايا نصب وتزوير غير القتل العمد لفارس الدمنهوري، انتي ربنا بيحبك يا رقية إن ربنا كشفلك كل حاجة قبل ما الاستاذ كان يبيع مصنع اسكندرية ويمضي على الصفقة اللي كانت هتودينا في ستين داهية، وبالمناسبة أنا لغيت التوكيل، وخليته يطلقك، يعني انتي حرة. نظر آدم إلى رقية، فرأى في عينيها مزيجًا من الألم والندم والامتنان، وكأنها تود أن تنطق بمئة كلمة دفعة واحدة، لكنها لم تجد سوى همسة مختنقة خرجت من بين شفتيها المرتعشتين: -آدم آنا….أنا… قاطعها بلطف، محاولًا تهدئتها قبل أن تغرق في دوامة المشاعر: -ماتقوليش أي حاجة، بس لما عمي كان بيحذرك من القريب مكنش يقصدني أنا يا رقية، تجمدت نظراتها عليه، وكأنها تحاول استيعاب كلماته، أكمل بصوت هادئ لكنه يحمل مرارة السنين: -كنتي فكرتي كنت هتعرفي إن هو يقصده هو، الله يرحمه مكنش بيحبه بس مكنش عايز يكسر بخاطرك، وبعدين لو كان يقصدني او يقصد جوز عمتك مكنش سمح لينا نبقى شراكائه كان قطع وجودنا من حياته صح ولا لا؟ حدقت فيه طويلًا، وكأن عقارب الزمن تعود بها إلى الوراء، تذكرت كلمات والدها، نظرته الحادة كلما ذكر اسم “فارس”، صمته حينما كانت تدافع عنه، كل الإشارات التي لم تفهمها وقتها. أغمضت عينيها للحظة، ثم همست بندم صادق: -صح عندك حق، أنا معرفتش افكر صح ولا عرفت افهم قصد بابا، أنا أسفة يا آدم. ابتسم ابتسامة دافئة، وربت على كفها قائلاً بحنوّ: -الحمد لله، يلا شدي حيلك عشان تشوفي شغلك. نظرت إليه باستغراب: -شغلي؟ اعتدل في جلسته، وعاد صوته إلى نبرته الجادة الحازمة: -اه طبعًا والمرة دي مفيش توكيل لحد، ولازم تنزلي بنفسك تتابعي الشغل وأنا هعلمك أنا والبشمهندس يوسف. ظلت تحدق فيه، تحاول أن تستوعب التحول الذي حدث في حياتها، منذ أيام قليلة كانت مجرد زوجة تعيش في وهم، والآن أصبحت امرأة عليها أن تتحمل مسؤولية إرث أبيها، وتصمد أمام الحياة بقوة جديدة. امتلأت عيناها بالدموع، لكنها لم تكن دموع ضعف هذه المرة، بل دموع امتنان وعزم. -شكرًا يا آدم شكرًا بجد من غيرك مكنتش هعرف اعمل ده كله. ابتسم آدم، ثم قال بحنان: -أنا ماعملتش حاجة ده واجبي، يلا استعدي عشان حياتك الحقيقية هتبدأ دلوقتي. تمت بحمد لله.
تم نسخ الرابط