مارلين مونرو
-يعني انت هتقدر ترجعهالي يا هشام!
تنهد بثقل وهو يعود لجديته:
-الشقة والسبعين ألف والـ أربعة ألف بردو أنا مش هسكت أبدًا.
***
مرَّ أسبوع آخر وأنا أقيم في شقة هشام، ولم يتغير شيء سوى أن معاملة صفصف وهشام لي أصبحت أكثر لطفًا واحترامًا، واكتشفتُ شيئًا آخر، أن هشام لديه ابتسامة وضحكة رجولية ذات صوت جذاب، وأنه لم يكن “ابن أمه” كما يطلق عليه في الحارة، بل هو ابن بارٌّ بها فقط.
وشيء آخر… لقد تقبلتُ اسمي “نور”، ولم أعد أنزعج عندما يناديني به أحد.
جلستُ أمام التلفاز أتابع أفلامًا لم أحبها إطلاقًا، ولكنني شاهدتها من أجل صفصف فقط، كنت أنظر إلى عقارب الساعة التي تمر ببطء، وأنتظر مجيء هشام من عمله لأسأله عن أي جديد، فيجيب بهز رأسه يمينًا ويسارًا، والبرود المحتل وجهه يقتلني.
جذب انتباهي صفصف وهي تخرج من غرفتها مرتدية عباءة سوداء مزركشة بألوان خاطفة للعين، وتحمل في يديها حقائب عديدة، نظرتُ نحوها ولم أتساءل عن وجهتها، إلا عندما وقفت أمامي قائلة:
-قومي يا بت يا نور البسي وتعالي معايا أنا وهشام نروح نزور عمك صلاح.
زياراتها لعم صلاح دائمًا تصيبني بالارتباك، فهي تعامل قبره وكأنه لا يزال على قيد الحياة! سمعتها تقول مجددًا بغيظ:
-يا قليلة الاصل ده كان بيجبلك الحلويات وبيوديكي الملاهي، و….
قطعتُ عليها وصلة التوبيخ المتوقعة وقلتُ سريعًا:
-أنا قايمة البس حالاً.
انتهيتُ من ارتداء ملابسي، وحرصتُ على ارتداء سروال أسود وسترة سوداء واسعة، وعقصتُ شعري عاليًا، هذه المرة، لم أضع مساحيق تجميل، سوى كحل عربي في عينيّ، وما إن خرجتُ حتى صاحت بي بِنَزق:
-ياختي أول مرة يكون عندك إخلاص وتلبسي أسود بس أنا وعمك صلاح مابنحبش الاسود، مالبستيش الوان ليه!!
ألم أقل لكم؟ إنها تتعامل معه
-المرة اللي جاية، يلا بينا.
حملتُ عنها الحقائب وغادرنا سويًا بنايتنا، فوجدنا أم فتحي تستقبلني بوجهٍ حزين لم أرها به من قبل، وقالت لي بنبرة مشفقة:
-قلبي عندك يا مارلين، ان شاء الله ربنا يرزقك باللي احسن منها.
رفعتُ حاجبي بدهشة، متعجبة من طريقتها غير المعتادة في الحديث معي، التفتُ نحو صفصف فوجدتها تحدق بها بتهديد ونظرات غامضة، وعندها فقط أدركتُ سبب تغير أم فتحي معي.
تعلقتُ بذراع صفصف وقلتُ لأم فتحي بابتسامة مقتضبة:
-شكرًا.
أبعدتني صفصف عنها وهي تدفعني نحو سيارة الأجرة التي أرسلها هشام قائلة:
-روحي حطي الاكياس في العربية وأنا جيالك.
أومأتُ برأسي وتحركتُ بضع خطوات، لكنني سمعتها تقول لأم فتحي بنبرة تهديد:
-لو كنتي قولتي غير كده، كنت فرجت عليكي الحارة كلها.
-وأنا اقدر اقول غير كده يا أم هشام، هو في حد يقدر يكسرلك كلمة.
حسنًا… الآن تأكدت، تهديدات صفصف طالت الحارة بأكملها! وهذا ما يسعدني حقًا، فلأول مرة أشعر أنني أتحامى بجدار متين يحجب عني تيارات الهواء الباردة!
وبعد مرور دقائق عديدة…
وصلنا إلى المقابر، ورأينا هشام ينتظرنا مرتديًا بدلته السوداء، كان عمله يتطلب أن يرتدي البدل الرسمية، واكتشفتُ لأول مرة أنه يمتلك الكثير منها، بالإضافة إلى ملابس باهظة الثمن وأنيقة!
-انتي جايبة أنجلينا ليه يا أمي، الهانم ما بتجبش الكآبة!!
كان يحاول استفزازي، لكنني لم أحقق له مراده، فابتسمتُ له بدلال قائلة:
-مارلين يا هشام، مارلين لو سمحت.
-بولبيف ياختي ماتزعليش نفسك.
قالتها صفصف بابتسامة سمجة، ثم أشارت لنا بالتحرك قائلة:
-يلا بينا هنتأخر على أبوك.
دخلنا المقابر، ووقفا أمامي يقرآن الفاتحة ويدعوان له، أخيرًا شعرتُ أنه متوفى، ثم عادت صفصف تتحدث إليه، وابتسامة كبيرة تعلو وجهها وهي تشير نحوي:
-شوف جبتلك مين يا ابو هشام، البت مالبورو حبيبتك، القليلة الأصل لسه فاكرة تيجي تزورك، خسارة فيها الحلويات والملاهي.
-إزيك يا عمو صلاح وحشتني!
أشرتُ إلى القبر بابتسامة واسعة، بينما فسحت لي المجال لأتحدث مع “عم صلاح”، لكنني التزمتُ الصمت… فلم أتحدث مع موتى من قبل!
-ماتعرفش انت يا ابو صلاح اللي حصلها، الناس كلها خيبتها السبت والاحد ودي خيبتها ماوردت على حد!
زفرتُ بضيق من توبيخها المستمر، ثم نظرتُ إلى هشام، الذي كان يقف بشموخ مرتديًا نظارته الشمسية السوداء، لكنني شعرتُ أنه ينظر إليّ… بل إن نظراته كانت تخترقني!
إحساس الخجل تملكني وجعلني أتوتر بشدة، وتمنيتُ أن ينتهي هذا اللقاء غير المفهوم بسرعة.
***
عدنا إلى المنطقة أخيرًا بعدما قرر هشام أن يرفّه عني، فاختار أن نتناول غداءنا في أحد المطاعم المطلة على النيل، ثم توجهنا إلى “بـ لبن” لأن صفصف تعشقه، فطلب لنا الحلويات، حينها اكتشفتُ شيئًا آخر، هناك الكثير من الصفات المشتركة بيني وبين هشام!
لم أنكر أن اليوم كان جميلًا، خاصة بلقاء عم صلاح، وها أنا ذا أتعامل معه وكأنه لا يزال حيًا، وكأن عدوى هذا الشعور تسربت إليّ أنا أيضًا.
لكن الثقل الجاثم فوق صدري ازداد وطأته كلما اقتربنا من المنطقة، فتذكرتُ خيبتي الثقيلة، كما تقول عني صفصف!
غير أن الهرج والمرج اللذين عما المكان سرقا انتباهنا، ما عدا هشام، فقد كان باردًا وصامتًا، قابلنا أم فتحي، فسألتها صفصف بفضول:
-في أيه يا ام فتحي!
-الواد رامز الشرطة جت وقبضت عليه.
لم أصدق نفسي وابتسمت بسعادة:
-بجد؟
-يعني انت هتقدر ترجعهالي يا هشام! تنهد بثقل وهو يعود لجديته: -الشقة والسبعين ألف والـ أربعة ألف بردو أنا مش هسكت أبدًا. *** مرَّ أسبوع آخر وأنا أقيم في شقة هشام، ولم يتغير شيء سوى أن معاملة صفصف وهشام لي أصبحت أكثر لطفًا واحترامًا، واكتشفتُ شيئًا آخر، أن هشام لديه ابتسامة وضحكة رجولية ذات صوت جذاب، وأنه لم يكن “ابن أمه” كما يطلق عليه في الحارة، بل هو ابن بارٌّ بها فقط. وشيء آخر… لقد تقبلتُ اسمي “نور”، ولم أعد أنزعج عندما يناديني به أحد. جلستُ أمام التلفاز أتابع أفلامًا لم أحبها إطلاقًا، ولكنني شاهدتها من أجل صفصف فقط، كنت أنظر إلى عقارب الساعة التي تمر ببطء، وأنتظر مجيء هشام من عمله لأسأله عن أي جديد، فيجيب بهز رأسه يمينًا ويسارًا، والبرود المحتل وجهه يقتلني. جذب انتباهي صفصف وهي تخرج من غرفتها مرتدية عباءة سوداء مزركشة بألوان خاطفة للعين، وتحمل في يديها حقائب عديدة، نظرتُ نحوها ولم أتساءل عن وجهتها، إلا عندما وقفت أمامي قائلة: -قومي يا بت يا نور البسي وتعالي معايا أنا وهشام نروح نزور عمك صلاح. زياراتها لعم صلاح دائمًا تصيبني بالارتباك، فهي تعامل قبره وكأنه لا يزال على قيد الحياة! سمعتها تقول مجددًا بغيظ: -يا قليلة الاصل ده كان بيجبلك الحلويات وبيوديكي الملاهي، و…. قطعتُ عليها وصلة التوبيخ المتوقعة وقلتُ سريعًا: -أنا قايمة البس حالاً. انتهيتُ من ارتداء ملابسي، وحرصتُ على ارتداء سروال أسود وسترة سوداء واسعة، وعقصتُ شعري عاليًا، هذه المرة، لم أضع مساحيق تجميل، سوى كحل عربي في عينيّ، وما إن خرجتُ حتى صاحت بي بِنَزق: -ياختي أول مرة يكون عندك إخلاص وتلبسي أسود بس أنا وعمك صلاح مابنحبش الاسود، مالبستيش الوان ليه!! ألم أقل لكم؟ إنها تتعامل معه